وصفاته (فأنى تصرفون) أي كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما؟
فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة ربك: أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا: أي خرجوا من الحق إلى الباطل وتمردوا في كفرهم عنادا ومكابرة، وجملة (أنهم لا يؤمنون) بدل من الكلمة. قاله الزجاج: أي حقت عليهم هذه الكلمة، وهي عدم إيمانهم، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام: أي لأنهم لا يؤمنون. وقال الفراء: إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف، وقد قرأ نافع وابن عامر (كلمات ربك) بالجمع. وقرأ الباقون بالافراد. قوله (قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده) أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين، أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولها لهم، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد، لكنه لما كان أمرا ظاهرا بينا، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ولم يكابر كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم (قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب، إما على طريق التلقين لهم وتعريفهم كيف يجيبون وإرشادهم إلى ما يقولون، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ومعرفة ما لديه، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فرارا منهم عن أن تلزمهم الحجة أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق - ومعنى (فأنى تؤفكون) فكيف تؤفكون: أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره. ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق) والاستفهام هاهنا، كالاستفهامات السابقة، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيرا في القرآن كقوله - الذي خلقني فهو يهدين - وقوله - الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى - وقوله - الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى - وفعل الهداية يجئ متعديا باللام وإلى، وهما بمعنى واحد. روى ذلك عن الزجاج. والمعنى: قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا، فقل لهم: الله يهدي للحق دون غيره، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار، والاستفهام في قوله (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى) للتقرير وإلزام الحجة.
وقد اختلف القراء في (لا يهدى) فقرأ أهل المدينة إلا نافعا " يهدى " بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين. قال النحاس: والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركه خفيفة إلى الكسر، وسيبويه يسمى هذا اختلاسا. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدى، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش مثل قراءة ابن كثير إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم (يهدى) بكسر الياء والهاء وتشديد الدال وذلك للاتباع. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب (يهدى) بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال من هدى يهدى. قال النحاس: وهذه القراءة لها