للعقول المذهلة للأفهام. وقيل إن هذا التعارف هو تعارف التوبيخ والتقريع، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني لا تعارف شفقة ورأفة كما قال تعالى - ولا يسأل حميم حميما - وقوله - فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - فيجمع بأن المراد بالتعارف، هو تعارف التوبيخ، وعليه يحمل قوله - ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول -، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران، والجملة في محل نصب على الحال، والمراد بلقاء الله يوم القيامة عند الحساب والجزاء، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم.
قوله (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد، والمعنى إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فتراه، أو فذلك، وجملة (أو نتوفينك) معطوفة على ما قبلها، والمعنى: أو لا نرينك ذلك في حياتك بل نتوفينك قبل ذلك (فإلينا مرجعهم) فعند ذلك نعذبهم في الآخرة فنريك عذابهم فيها، وجواب (أو نتوفينك) محذوف أيضا، والتقدير: أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة، وقيل إن جواب (أو نتوفينك) هو قوله (فإلينا مرجعهم) لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعذيبهم في الآخرة، وقيل العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة، والأصل أريناك أو توفيناك، وفيه نظر فإن إراءته صلى الله عليه وآله وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة.
وحاصل معنى هذه الآية: إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا. وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم وذلهم وذهاب عزهم وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن، فلله الحمد. قوله (ثم الله شهيد على ما يفعلون) جاء بثم الدالة على التبعيد مع كون الله سبحانه شهيدا على ما يفعلونه في الدارين للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم كما ذكره النيسابوري (ولكل أمة) من الأمم الخالية في وقت من الأوقات (رسول) يرسله الله إليهم، ويبين لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة (فإذا جاء رسولهم) إليهم وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعا (قضى بينهم) أي بين الأمة ورسولها (بالقسط) أي العدل فنجا الرسول وهلك المكذبون له كما قال سبحانه - وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا - ويجوز أن يراد بالضمير في بينهم الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم وصدقه البعض الآخر، فيهلك المكذبون وينجو المصدقون (وهم لا يظلمون) في ذلك القضاء فلا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة، ومنه قوله تعالى - وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم - وقوله - فكيف إذا جئنا من كل أمة شهيد - والمراد المبالغة في إظهار العدل والنصفة بين العباد، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا (يقولون متى هذا الوعد) والاستفهام منهم للإنكار والاستبعاد وللقدح في النبوة (إن كنتم صادقين) خطابا منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادة الشبهة ويقطع اللجاج فقال (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا) أي لا أقدر على جلب نفع لها ولا دفع ضر عنها، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري، وقدم الضر، لأن السياق لإظهار العجز