المحال التي يظهر فيها تغير الأحوال فليس لأصحاب التكوين إلا مراتب العوام إلا أن الفرق بينهم وبين العوام أن العامة لها التكوين في معتاد ولهؤلاء التكوين في غير معتاد ولكن هو معتاد لهم فهم بمنزلة العامة في عاداتهم وصاحب الوجود والشهود لا يبرح في ليس لك من الأمر شئ فإذا عاينوا أهل التكوين ما ذكرناه من عمارة الأمكنة ونضد العالم وإنه ما يقبل الزيادة ولا النقصان وإنه قد خلق في أكمل صورة وما بقي لهم تصريف إلا في المحال وإيجاد إلهيات كالتجلي الإلهي في الصور انكسرت قلوبهم وعلموا عجزهم وأنهم قاصرون مقيدون في التكوين فيطلبون الراحة من تعب التكوين فيأتيهم الخطاب الإلهي في أسرارهم بقوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل لوجود الراحة فاستراحوا عند هذا الخطاب في ظله الممدود وظل الشئ يخرج على صورة الشئ فجعل الله راحتهم بالعالم لا به والمفلس ما له راحة إلا به فإنه قد أفلسه من العالم فليس له راحة في الظل فلا حكم للعالم عليه ولا مزية فهو لله بالله فإذا أراد الله راحة هذا المفلس قبض الظل إليه قبضا يسيرا فانكشف عن موضع استراحة هذا المفلس لأنه إذا قبض الظل إليه عمر النور المكان المقبوض منه هذا الظل وهو موضع راحة هذا المفلس فإنه لحاجته كالمقرور يطلب الشمس لوجود الراحة له في النور فإذا استراح أهل التكوين في علم قوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل استراح المفلس من هذه الآية إلى قوله ألم تر إلى ربك في بدء أمره وفي نهايته إلى قوله ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا فما رأى في البداية والنهاية إلا ربه فهو الأول في شهوده والآخر في انتهاء وجوده وبقي أهل التكوين في علم مد الظل لا في كيفيته والمفلسون ما نظروا في الظل إلا من حيث خاطبهم الحق وهو قوله كيف مد الظل فوقفوا مع الكيفية وهي إلهية فما وقفوا إلا مع الله لا مع الظل لأن الكيفية شهود الممد له لا شهود الممدود فجعلهم الحق لهذه المنزلة يفيضون على أهل التكوين من علوم الحياة ما تحيا به قلوبهم فإذا رأوا الإمداد يأتيهم نظروا من أي جهة أتاهم ذلك فرأوه من جهة هؤلاء الكمل من رجال الله فعرفوا إن لله رجالا فوقهم لهم القربة الإلهية بما سبق لهم عند الله فكانوا لهذه السابقة من السابقين المسارعين إلى الخيرات على طريق الاقتصاد وأعطوا كل ذي حق حقه كما أعطى الله كل شئ خلقه فلهؤلاء العرش ولأهل التكوين الفرش فلهم الاستواء ولأهل التكوين الاتكاء ولهم النزول ولأهل التكوين الارتفاع والصعود ولهم حقائق أسماء التنزيه ولأهل التكوين حقائق أسماء التشبيه إذ بها يغيرون الأحوال في المحال فهذا بعض ما هم عليه أهل يد التكوين وأصحاب الوجه الذين لهم ما بين اليدين وأما أهل التسليم فهم في جهد ومشقة في نار مجاهدة ورياضة لا يعرفون برد اليقين ولا حرارة الاشتياق إلى التعيين لأن الشوق لا يتعلق إلا بمعروف ولا يكون إلا لأصحاب الحروف الذين يعبدون الله على حرف لمعناه فإن أصابه خير اطمأن به أي بالحرف لأجل الخير الذي أصابه منه وهو خير مقيد معين عنده الذي لأجله لزم هذا الحرف دون غيره إذ الحروف كثيرة فهو كمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به فهو على شفا لا على شفاء ولكن مع هذا فرحمة الله شاملة ونعمته سابغة ولكل موجود في العالم وجهان باطن فيه الرحمة وظاهر من قبله العذاب كالسور بين الجنة والنار والعبد حاله بحسب الوجه الذي ينظر إليه من كل موجود لأن الحق وصف نفسه بالغضب والرضاء والعالم على صورته فلا بد مما ذكرناه أن يكون العالم عليه فلا بد من القبضتين ولا بد من اليدين ولا بد من الدارين ولا بد من البرزخ بين كل اثنين ومن كل شئ خلقنا زوجين لأنه مخلوق عن صفتين إرادة وقول وهما اللذان يشهدهما كل مخلوق من الحق فإن العالم نتيجة والنتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين وهذا هو التناسل الإلهي ولهذا أوجده على الصورة كوجود الابن على صورة الأب في كل جنس من المخلوقات فالعالم من حيث أجزائه وتفاصيله كالأعضاء للاسم الظاهر ومن حيث معانيه وتفاصيل مراتبه كالقوى الروحانية الباطنة التي لا تعلم إلا بآثارها للاسم الباطن فقامت نشأة العالم على الظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم لا إله إلا هو العزيز الحكيم فهذا قد بينا في هذا المنزل ما تقتضيه الثلاثة الأوجه الإلهية والمراتب الثلاثة التي ظهر فيها التفاضل بين العالم فلنذكر ما يتضمنه هذا المنزل من العلوم فأول ذلك علم المبشرات وعلم الميزان الإلهي الذي بيده للخفض والرفع الوارد حديثه في الخبر النبوي الذي أشهده الحق وفيه علم الحركات الطبيعية خاصة وفيه علم تحليل
(١٠٦)