في تلك الخزانة وبقيت هي مشتغلة بقبول ما يأتي إليها عند مفارقة زمان الحال وحكم الزمان الماضي على هذا الآتي فتأخذه فتلقيه في الخزانة خزانة الحفظ وإنما سميت خزانة الحفظ لأنها تحفظ على الآتي زمان الحال وهو الدائم فلا يحكم عليه الزمان الماضي بخلاف من ليس له هذا الاستعداد ولا هذا التهيؤ فإن الماضي يأخذه فينساه العبد فلا يدري أين ذهب وهو الذي يستولي عليه سلطان الغفلة والسهو والنسيان فيكون الحق يحفظه له أو عليه والعبد لا يشعر لهذا الحفظ الإلهي بل أكثر العبيد لا كلهم وهو قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى أيضا في كتابه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا فالعبد الكامل رب الحفظ يحضر والغافل الذي لا حفظ له يحضر له فبين الرجلين بون بعيد فالحكم العام إنما هو لزمان الحال وهو الدائم يحضر المستقبل قبل إتيانه ويمسك ما أتى به الماضي فإن الزمان صورة روحها ما يأتي به لا غير فزمان الحال حي بحياة كل زمان لأنه الحافظ والضابط لكل ما أتى به كل زمان ولما كانت الأزمنة ثلاثة كانت الأحوال ثلاثة حال اللين والعطف فإنه يأتي باللين ما يأتي بالقهر والفظاظة ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور وباللين ينقضي المطلوب وتأتي بالمودة فتلقيها في قلب من استملته باللين وصاحب اللين لا يقاوم فإنه لا يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم والحال الثاني حال هداية الحائر فإن الحائر إذا سأل يسأل إما بحاله وإما بقوله فإن العالم بما حار فيه يجب عليه إن يبين له ما حار فيه فإن كان المسؤول فيه مما تكون حقيقة الحيرة فيه أبان له هذا العالم أن العلم به أنه يحار فيه فأزال عنه الحيرة في الحيرة وإن كانت من العلوم التي إذا بينت زالت الحيرة فيه وبان بيان الصبح لذي عينين أبانه له فعلمه فأزال عنه الحيرة ولا يرده ولا يقول له ليس هذا عشك فأدرج ولا سألت ما لا يعطيه مقامك فإن الإنسان إذا قال مثل هذا القول لمن سأله عن علم ما فليس بعالم وهو جاهل بالمسألة وبالوجه الذي ينبغي من هذه المسألة أن يقابل به هذا السائل والعلم وسوء الخلق لا يجتمعان في موفق فكل عالم فهو واسع المغفرة والرحمة وسوء الخلق إنما هو من الضيق والحرج وذلك لجهله فلا يعلم قدر العلم إلا العلماء بالله فله السعة التي لا نهاية لها مددا ومدة ولقد شفعت عند ملك في حق شخص أذنب له ذنبا اقتضى ذلك الذنب في نفس ما يطلبه الملك أن يقتل صاحبه فإن الملك يعفو عن كل شئ إلا عن ثلاثة أشياء فإنه لا يعفو عنها إذ لا عفو فيها وما يتفاضل الملوك فيها إلا في صورة العقوبة والثلاثة الأشياء التي لا عفو فيها عند الملوك التعرض للحرم وإفشاء سره والقدح في الملك وكان هذا الشخص قد جاء لهذا الملك بما يقدح في الملك فعزم على قتله فلما بلغتني قصته تعرضت عند الملك للشفاعة فيه إن لا يقتله فتغير وجه الملك وقال هو ذنب لا يغفر فلا بد من قتله فتبسمت وقلت له أيها الملك والله لو علمت إن في ملكك ذنبا يقاوم عفوك ويغالبه ما شفعت عندك ولا اعتقدت فيك إنك ملك والله إني من عامة المسلمين والله ما أرى في العالم كله ذنبا يقاوم عفوي فتحير من قولي ووقع لي بالعفو عن ذلك الشخص فقلت له فاجعل عقوبته إنزاله عن الرتبة التي أوجبت له عندك إن تطلعه على أسرارك حتى ركب مركبا يقدح في الملك فإني كما كنت له في دفع القتل عنه إنا أيضا للملك معين فيما يدفع عن القدح في ملكه ففرح الملك بذلك وسر وقال لي جزاك الله خيرا عني ثم صعد من عندي إلى قلعته وأخرج ذلك المحبوس وبعث به إلي حتى رأيته فوصيته بما ينبغي وتعجبت من عقل الملك وتأدبه وشكرته على صنيعه والحال الثالث إظهار المنعم عليه نعمة المنعم عليه فإن إظهارها عين الشكر وحقه وبمثل هذا يكون المزيد كما يكون بالكفران لها زوال النعم والكفران سترها فإن الكفر معناه الستر قال تعالى وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان وهذا غاية النعم من المنعم فكفرت يعني الجماعة التي أنعم عليها المنعم بهذه النعم بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع بإزالة الرزق والخوف بإزالة الأمن بما كانوا يصنعون من ستر النعم وجحدها والأشر والبطر بها وقال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم وقال واشكروا لي ولا تكفرون هذا مع غناه عن العالمين فكيف بالفقير المحتاج إذا أنعم على مثله من نعمة الله التي أعطاه إياه وامتن عليه بها فهو أحوج إلى الشكر وأفرح به من الغني المطلق الغني عن العالمين وهذه خزانة شريفة العلم بها شريف ومقامها مقام منيف
(٤٠٦)