إن الله في قبلة المصلي هذا كله حكم المراتب إن عقلت فلو زالت المراتب من العالم لم يكن للأعيان وجود أصلا فافهم فإذا أراد الأعلى أن يعرفه الأدنى لأن الأدنى لا قدم له في العلو والأعلى له الإحاطة بالأدنى فلا بد أن يتعرف الأعلى إلى الأدنى ولا يمكن ذلك إلا بأن يتنزل إليه الأعلى لأن الأدنى لا يمكن أن يترقى إليه لأنه تنعدم عينه إذ لا قدم له في العلو فالأدنى أبدا لا يزال في رتبته ثابتا والأعلى له النزول وله الثبوت في رتبته ومن ثبوته في رتبته حكم على نفسه بالنزول فهو ثابت في مرتبته العالية في عين نزوله لأن النزول من أحكامها وكذلك فعل الله تعالى في سفرائه الذين هم رسله إلى خلقه من خلقه فما أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم فإذا أرسله عامة كانت العامة قومه فأعطاه جوامع الكلم وهو فصل الخطاب وما كمل إلا آدم بالأسماء وكمال محمد ص بجوامع الكلم فنزل إليهم برسالة ربهم بلسانهم ولحنهم فما دعاهم إلا بهم ثم إنه ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه فما زادهم في ذلك إلا كونها من عند الله فيحكمون بها على طريق القربة إلى الله لتورثهم السعادة عند الله وإنما قلنا ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه لأنه لم تخل أمة من الأمم على ناموس تكون عليه لمصالح أحوالها وليست إلا خمسة فلا بد من واجب أوجبه إمامهم وواضع ناموسهم عليهم وهو الواجب والفرض عندنا وكذلك المندوب والمحظور والمكروه والمباح لأنه لا بد لهم من حدود في الأحكام يقفون عندها عليها وما جاءهم الشرع من عند الله إلا بهذا الذي كانوا عليه من حكم نظرهم فيما يزعمون وهو في نفس الأمر من جعل الله ذلك في نفوسهم من حيث لا يشعرون ولذلك كان لهم بذلك أجر من الله من حيث لا يعلمون لكن إذا انقلبوا إليه وجدوا ذلك عنده فلما رأينا أنه ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه علمنا أنه ما تعرف إلينا حين أراد منا أن نعرفه إلا بما نحن عليه لا بما تقتضيه ذاته وإن كان تعرفه إلينا بنا مما تقتضيه ذاته ولكن يختلف اقتضاء ذاته بين ما يتميز به عنا وبين ما يتعرف به إلينا ولما كان الخلق على مراتب كثيرة وكان أكمل مرتبة فيه الإنسان كان كل صنف من العالم جزءا بالنظر إلى كمال الإنسان حتى الإنسان الحيوان جزء من الإنسان الكامل فكل معرفة لجزء من العالم بالله معرفة جزئية إلا الإنسان فإن معرفته بالله معرفة العالم كله بالله فعلمه بالله علم كلي لا علم كل إذ لو كان علما كلا لم يؤمر أن يقول رب زدني علما أترى ذلك علما بغير الله لا والله بل بالله فخلق الإنسان الكامل على صورته ومكنه بالصورة من إطلاق جميع أسمائه عليه فردا فردا وبعضا بعضا لا ينطلق عليه مجموع الأسماء معا في الكلمة الواحدة ليتميز الرب من العبد الكامل فما من اسم من الأسماء الحسنى وكل أسماء الله حسني إلا وللعبد الكامل أن يدعي بها كما له أن يدعو سيده بها ومن هذه الأسماء الإلهية ما يدعوه الحق تعالى بها على طريق الثناء على العبد بها وهي أسماء الرحمة واللطف والحنان ومنها ما يدعوه بها على طريق المذمة مثل قوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم وكذلك كان في قومه يدعى بهذا الاسم ودعاه الحق به هنا سخرية به على جهة الذم قال تعالى فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون فلما أوجد الكامل منا على الصورة عرفه الكامل من نفسه بما أعطاه من الكمال وكان العبد الكامل حقا كله وفنى عن عينه في نفسه لأنه قابلة بذاته وقد جعل الله له مثالا في باب المحبة فعشق إليه ما عشق من العالم من أي شئ كان من فرس أو دار أو دينار أو درهم فما قابلة به إلا بالجزء المناسب ففني منه ذلك الجزء المناسب لعشقه في ذلك وبقي سائره صاحيا لا حكم له فيه إلا إذا عشق شخصا مثله من جارية أو غلام فإنه يقابله بذاته كلها وبجميع أجزائه فإذا شاهده فنى فيه بكله لا بجزء منه فيغشى عليه وذلك لكونه قابلة بكله كذلك العبد إذا رأى الحق أو تخيله فنى فيه عند مشاهدته لأنه على صورته فيقابله بذاته فما بقي فيه جزء يصحو حتى يعقل به ما فنى منه فيه وهكذا كل جزء من العالم مع الحق إذا تجلى له خشع له وفنى فيه لأن كل ما هو عليه شئ من العالم هو صورة الحق لما أعطاه منه إذ لا يصح أن يكون شئ من العالم له وجود ليس هو صورة الحق فلا بد أن يفنى العالم في الحق إذا تجلى له ولا يفنى الحق في الخلق لأن الخلق من الحق ما هو الحق من الخلق فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى كل صنف من العالم ما عدا نوع الإنسان فتفطن لما ذكرته لك من فناء كل شئ من العالم عن نفسه عند تجليه سبحانه له ولا يفنى الحق بمشاهدة الخلق وقد جاء الشرع بتدكدك الجبل وصعق موسى ع عند التجلي الرباني فما عرفنا من
(٤٠٩)