نظروا في ذلك هذا النظر الذي ذكرناه وإذا علمت هذا فاعلم أيضا أن الله ما خلق الإنسان عالما بكل شئ بل أمر نبيه ص أن يطلب منه تعالى مزيد علم إذ قال له وقل رب زدني علما فهو في كل حال يستفيد من العلم ما به سعادته وكماله فالذي فطر عليه العالم والإنسان من العلم العلم بوجود الله والعلم بفقر المحدث إليه فإذا كان هذا فلا بد لكل من هذه صفته أن يفر إلى الله لمشاهدة فقره وما يعطيه حكم الفقر من الألم للنفس ليغنيه من انقطع إليه فربما يزيل عنه ألم الفقر بما به تقع اللذة له وهو الغني بالله وهو مطلب لا يصح حصوله أصلا لأنه لو استغنى أحد بالله لاستغنى عن الله والاستغناء عن الله محال فالاستغناء بالله محال لكن الله يعطيه أمرا ما من الأمور التي يحدثها الله فيه عند هذا الطلب يغنيه به ويزيل عنه ما يجده من اللذة ألم ذلك الفقر المعين لا يزيل عنه ألم الفقر الكلي الذي لا يمكن زواله عن الممكن لأن الفقر له وصف ذاتي لا في حال عدم ولا في حال وجود ولهذا لم يجعل في نفس الممكن إلا ما إذا أعطاه ذلك وجد عنده لذة مزيلة ألم الطلب ثم يحدث له طلب آخر لأمر آخر أو لبقاء ذلك الحاصل له على الدوام دنيا وآخرة فلا بد لمن هذه حاله من تخل وفرار عن الأمور الشاغلة له عن هذا الأمر حتى يكشف الله عن بصيرته وبصره فيشاهد الأمر على ما هو عليه فيعلم عند ذلك كيف يطلب وممن يطلب ومن يطلب وأمثال هذا ويعلم معنى قوله إن الله هو الغني الحميد أي المثنى عليه بالغنى وتدبر قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون لأنه يستحيل عليه إن يعبد نفسه ولما قلناه أتى بالحميد لأن صفة الغني لا شئ أعلى منها وهي صفة ذاتية للحق تعالى فافهم الإشارة فالعبارة هنا حرام وإذا تقرر هذا علمت كون رسول الله ص كان يخلو بغار حرا ليتحنث فيه ويفر من مشاهدة الناس لما كان يجده في نفسه من الحرج والضيق في مشاهدتهم فلو نظر إلى وجه الحق فيهم ما فر منهم ولا كان يخلو بنفسه وما زال على هذه الحال حتى فجئه الحق فرجع إلى الخلق ولم يزل فيهم فإنه لم يزل في غار حرا مع نفسه فما زال إلا من بعض الناس لا من كل الناس فافهم فلا بد لكل طالب ربه أن يخلو بنفسه مع ربه في سره لأن الله ما جعل للإنسان ظاهرا وباطنا إلا ليخلو مع الله في باطنه ويشاهده في ظاهره في أسبابه بعد أن ينظر إليه في باطنه حتى يميزه في عين الأسباب وإلا فلا يعرفه أبدا فما يرجع من يرجع إلى الخلوة مع الله في باطنه إلا لأجل هذا فباطن الإنسان بيت خلوته لو عقل عن الله فلما علمت في أول الأمر إن الشأن على ما ذكرته تجردت عن هيكلي هذا تجردا علميا حاليا لجهلي بمكانة الحق من هذا الهيكل وعدم علمي بأن لله وجها خاصا في كل شئ فلما صرت عن هذا الهيكل أجنبيا نظرت إليه كأنه سبجة سوداء مظلم الأقطار لم أر فيه من النور شيئا فسألت عن هذه الظلمة من أين لحقت فقيل لي هذه ظلمة الطبيعة فإن الظلمات ثلاث تراكم بعضها على بعض حتى إذا أخرج أحد يده لم يكد يراها فأحرى إن لا يراها فنفى مقاربة الرؤية فكيف الرؤية فالظلمة حجاب إلهي يحجب عن وجود الحق فقلت ما هذه الظلمات الثلاث فقيل لي الظلمة الأولى المشهودة لك ظلمة الطبيعة فهي الطبقة الأولى التي تلي بصرك ثم إن هذه الطبيعة ما وجدت إلا في المرتبة الثالثة ففوقها ظلمة السبب الحادث الممكن التي وجدت عنها فهي وجود محدث عن محدث وهي النفس فهي الظلمة الثانية فاشتد ظلام الطبيعة وتضاعف بظلمة النفس فأشهدت النفس فرأيت ظلمة فوق ظلمة ثم قيل لي فوق هذه الظلمة الثانية ظلمة ثالثة وهي السبب الذي وجدت عنه هذه النفس وهو العقل الأول فكشف لي عنه فرأيت ظلاما متراكما بعضه فوق بعض فقلت أفلهذا سبب آخر وجد عنه فقيل لي لا بل هذا أوجده الحق لا عند سبب فقلت فما باله مظلما فقيل لي هذه الظلمة له ذاتية وهي ظلمة إمكانه يستمدها من ظلمة الغيب الذي لا يقع عليه شهود كما يقع على المغيب فيه إذا ظهر منه وفارقه وصار شهادة فعن هذه الظلمات الثلاث كان الإنسان من حيث هو جسم حيواني في بطن أمه في ظلمات ثلاث ظلمة الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن فإذا ولد اندرجت ظلمته فيه فكان ظاهره نورا وباطنه ظلمة فلا يتمكن له المشي في ظلمة باطنه إلا بسراج العلم إن لم يكن له هذا السراج فإنه لا يهتدي فيها فلما رأيت هيكلي وظلمته علمت أنه لو لم يكن له نور بوجه ما ما صح نظري إليه ولا إدراكي إياه فسألت عن النور الذي أعده لتعلق رؤيتي به فقيل لي نور الوجود به رأيته فنظرت إلي من حيث إني رائي لتلك الظلمة فرأيت ظلها ينبسط علي وما رأيت نوري يزيلها فتعجبت فقيل لي لا يزول عنك ظلام إمكانك فإنه نعت ذاتي لك فإنك لست
(٢٦٥)