والغشاوة دون العمي في الحكم إلا أن تكون الغشاوة تعطي الظلمة فلا فرق بينها وبين العمي فإن خرجت عن حد الظلمة إلى حد السدفة فقد يكون حال صاحبها أحسن من حال صاحب الظلمة ومن حال الأعمى قال بعضهم لمحمد ص ومن بيننا وبينك حجاب وهو الأكنة فاعمل إننا عاملون أي اعمل في رفع ذلك ويحتمل قولهم إننا عاملون في رفع ذلك في حق من يحتمل صدقه عندهم فإنهم اعترفوا أن قلوبهم في أكنة مما يدعوهم إليه فما جحدوا قوله ولا ردوه كما اعتقد غيرهم ممن لم يقل ذلك فلا أدري ما آل إليه أمر هؤلاء فإنهم عندي في مقام الرجاء فإنا نعلم قطعا إن الرسول يعمل في رفع الغطاء عن أعينهم بلا شك حتى قال لأزيدن على السبعين ولذا قال في الآية وويل للمشركين ولم يقل وويل لكم فهذا يدل بقرينة الحال أنهم عاملون في رفع الحجاب وإخراج قلوبهم من الأكنة وإنما كثر الأكنة لاختلاف أسباب توقفهم في قبول ما أتاهم به فمنهم من كنه الحسد وآخر الجهل وآخر شغل الوقت بما كان عنده أهم حتى يتفرع منه والكل حجاب ومن أعجب الأشياء الواقعة في الوجود ما أقوله وذلك أن الملائكة إذا تكلم الله بالوحي كأنه سلسلة على صفوان تصعق الملائكة ورسول الله ص كان إذا نزل عليه الوحي كسلسلة على صفوان يصعق وهو أشد الوحي عليه فينزل جبريل به على قلبه فيفني عن عالم الحس ويرغو ويسجى إلى أن يسرى عنه وأنه لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقا وموسى ص كلمه الله تكليما بارتفاع الوسائط وما صعق ولا زال عن حسه وقال وقيل له وهذا المقام أعظم من مقام الوحي بوساطة الملك فهذا الملك يصعق عند الكلام وهذا أكرم البشر يصعق عند نزول الروح بالوحي وهذا موسى لم يصعق ولا جرى عليه شئ مع ارتفاع الوسائط وصعق لذلك الجبل فاعلم إن هذا كله من آثار الحجب فإن الحكم لها حيث ظهرت فإن الله لما خلقها حجبا لم يمكن إلا أن تحجب ولا بد فلو لم تحجب لما كانت حجبا وخلق الله هذه الحجب على نوعين معنوية ومادية وخلق المادية على نوعين كثيفة ولطيفة وشفافة فالكثيفة لا يدرك البصر سواها واللطيفة يدرك البصر ما فيها وما وراءها والشفافة يدرك البصر ما وراءها ويحصل له الالتباس إذا أدرك ما فيها كما قيل رق الزجاج ورقت الخمر * فتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر وأما المرائي والأجسام الصقيلة فلا يدرك موضع الصور منها ولا يدرك ما وراءها ويدرك الصور الغائبة عن عين المدرك بها لا فيها فالصور المرئية حجاب بين البصر وبين الصقيل وهي صور لا يقال فيها لطيفة ولا كثيفة وتشهدها الأبصار كثيفة وتتغير أشكالها بتغير شكل الصقيل وتتموج بتموجه وتتحرك بتحرك من هي صورته من خارج وتسكن بسكونه إلا أن يتحرك الصقيل كتموج الماء فيظهر في العين فيها حركة ومن هي صورته ساكن فلها حركتان حركة من حركة من هي صورته وحركة من حركة الصقيل فما في الوجود إلا حجب مسدلة والإدراكات متعلقها الحجب ولها الأثر في صاحب العين المدرك لها وأعظم الحجب حجابان حجاب معنوي وهو الجهل وحجاب حسي وهو أنت على نفسك فأما الحجاب الأعظم المعنوي فقول رسول الله ص لما أسرى به في شجرة فيها وكرا طائر فقعد جبريل في الوكر الواحد وقعد رسول الله ص في الآخر فلما وصلا إلى السماء الدنيا تدلى إليهما شبه الرفرف درا وياقوتا وكان ذلك نوعا من تجلى الحق قال عليه السلام فأما جبريل فغشي عليه لعلمه بما تدلى إليه وأما رسول الله ص فبقي على حاله لكونه ما علم ما هو فلم يكن له سلطان عليه فلما أخبره جبريل عند ما أفاق أنه الحق قال ص عند ذلك فعلمت فضله يعني فضل جبريل علي في العلم فالعلم أصعق جبريل وعدم العلم أبقى النبي صلى الله عليه وسلم على حاله مع وجود الرؤية من الشخصين فهذا أعظم الحجب المعنوية وأما كونك حجابا عليك وهو أكثف الحجب الحسية فقول القائل بدا لك سر طال عنك اكتتامه * ولاح صباح كنت أنت ظلامه فأنت حجاب القلب عن سر غيبه * ولولاك لم يطبع عليه ختامه
(٢١٤)