قالت ذلك مريم حياء من الناس لما علمته من طهارة بيتها وآبائها فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ولما ذكرنا أن العالم كان مستورا في غيب الله وكان ذلك الغيب بمنزلة الظل للشخص فلو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل والظل على صورة ما هو ظل له فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص ألا ترى النهار لما سلخ من الليل ظهر نورا فظهرت الأشياء التي كانت مستورة بالليل ظهرت بنور النهار فلم يشبه النهار الليل وأشبه النور في ظهور الأشياء به فالليل كان ظل النور والنهار خرج لما سلج من الليل على صورة النور كذلك العالم في خروجه من الغيب خرج على صورة العالم بالغيب كما قررناه فقد تبين لك من العلم بالله من هذا المقام ما فيه كفاية إن عرفت قدره فلا تكونن من الجاهلين وأما مسألة روح صورة هذا العالم وأرواح صور العالم العلوي والسفلي فها أنا أبسطها لك في هذه المسألة من هذا المنزل في الدرجة الثامنة منه فإن هذا المنزل يحوي على سبعة عشر صنفا من العلم هذا أحدها فنقول إن روح العالم الكبير هو الغيب الذي خرج عنه فافهم ويكفيك أنه المظهر الأكبر الأعلى إن عقلت وعرفت قوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وبعد أن بان لك روح العالم الكبير فبقي لك أن تعلم أرواح صور العالم هل هي موجودة عن صورة أو قبلها أو معها ومنزلة الأرواح من صور العالم كمنزلة أرواح صور أعضاء الإنسان الصغير كالقدرة روح اليد والسمع روح الأذن والبصر روح العين فاعلم إن الناس اختلفوا في هذه المسألة على ما ذكرنا تفصيله والتحقيق في ذلك عندنا إن الأرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة الجمال غير مفصلة لأعيانها مفصلة عند الله في علمه فكانت في حضرة الإجمال كالحروف الموجودة بالقوة في المداد فلم تتميز لأنفسها وإن كانت متميزة عند الله مفصلة في حال إجمالها فإذا كتب القلم في اللوح ظهر صور الحروف مفصلة بعد ما كانت مجملة في المداد فقيل هذا ألف وباء وجيم ودال في البسائط وهي أرواح البسائط وقيل هذا قام وهذا زيد وهذا خرج وهذا عمرو وهي أرواح الأجسام المركبة ولما سوى الله صور العالم أي عالم شاء كان الروح الكل كالقلم واليمين الكاتبة والأرواح كالمداد في القلم والصور كمنازل الحروف في اللوح فنفخ الروح في صور العالم فظهرت الأرواح متميزة بصورها فقيل هذا زيد وهذا عمرو وهذا فرس وهذا فيل وهذه حية وكل ذي روح وما ثم إلا ذو روح لكنه مدرك وغير مدرك فمن الناس من قال إن الأرواح في أصل وجودها متولدة من مزاج الصورة ومن الناس من منع من ذلك ولكل واحد وجه يستند إليه في ذلك والطريقة الوسطى ما ذهبنا إليه وهو قوله ثم أنشأناه خلقا آخر وإذا سوى الله الصور الجسمية ففي أية صورة شاء من الصور الروحية ركبها إن شاء في صورة خنزير أو كلب أو إنسان أو فرس على ما قدره العزيز العليم فثم شخص الغالب عليه البلادة والبهيمية فروحه روح حمار وبه يدعى إذا ظهر حكم ذلك الروح فيقال فلان حمار وكذلك كل صفة تدعى إلى كتابها فيقال فلان كلب وفلان أسد وفلان إنسان وهو أكمل الصفات وأكمل الأرواح قال تعالى الذي خلقك فسواك فعدلك وتمت النشأة الظاهرة للبصر في أي صورة ما شاء ركبك من صور الأرواح فتنسب إليها كما ذكرنا وهي معينة عند الله فامتازت الأرواح بصورها ثم إنه إذا فارقت هذه المواد فطائفة من أصحابنا تقول إن الأرواح تتجرد عن المواد تجردا كليا وتعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصيقل إذا صدأ إلى الشمس واختلفوا هنا على طريقين فطائفة قالت لا تمتاز بعد المفارقة لأنفسها كما لا يمتاز ماء الأوعية التي على شاطئ النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر فالأجسام تلك الأوعية والماء الذي ملئت به من ذلك النهر كالأرواح من الروح الكل وقالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة وحسنة فتمتاز بتلك إلهيات إذا فارقت الأجسام كما إن ذلك الماء إذا كان في الأوعية أمور تغيره عن حالته إما في لونه أو رائحته أو طعمه فإذا فارق الأوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من الرائحة أو الطعم أو اللون وحفظ الله عليها تلك الهيئات المكتسبة ووافقوا في ذلك بعض الحكماء وطائفة قالت الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة في عالم الدنيا فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا برزخية وهي الصورة التي يرى الإنسان نفسه فيها في النوم وكذلك هو الموت وهو المعبر عنه بالصور ثم تبعث يوم القيامة في الأجسام الطبيعية كما كانت في الدنيا وإلى هنا انتهى خلاف أصحابنا في الأرواح بعد المفارقة وأما اختلاف غير أصحابنا في ذلك فكثير وليس مقصودنا إيراد كلام من ليس من
(١٢)