بهم - أي غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلا في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا، وجواب إذا في قوله (إذا كنتم في الفلك) قوله (جاءتها) إلى آخره ويكون قوله (دعوا الله) بدلا من ظنوا لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظن الهلاك وهو الباعث عليه، فكان بدلا منه بدل اشتمال لاشتماله عليه، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا؟ فقيل دعوا الله، وفي قوله (وجرين بهم) التفات من الخطاب إلى الغيبة، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة. وقال الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله - إياك نعبد - دليل الرضا والتقريب، وانتصاب مخلصين على الحال: أي لم يشوبوا دعاءهم بشئ من الشوائب كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه. وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا. وفى هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع في مثله ولا في بعضه من عباد الأوثان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللام في (لئن أنجيتنا من هذه) هي اللام الموطئة للقسم: أي قائلين ذلك، والإشارة بقوله (من هذه) إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر، واللام في (لنكونن) جواب القسم:
أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا وتنجينا منها، وقيل إن هذه الجملة مفعول دعوا (فلما نجاهم) الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها، وأجاب دعاءهم لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم، بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر. وإذا في (إذا هم يبغون) هي الفجائية: أي فاجئوا البغي في الأرض بغير الحق، والبغي: هو الفساد، من قولهم بغى الجرح: إذا ترامى في الفساد، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق، بل لا يكون إلا بالباطل، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم، بل تمردا وعنادا، لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة. قوله (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته. قرأ ابن إسحاق وحفص والمفضل بنصب متاع، وقرأ الباقون بالرفع. فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة: أي بغيكم وبال على أنفسكم، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره، ويكون متاع في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويكون المصدر مع الفعل المقدر استئنافا، وقيل إن متاع على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج: أي زمن متاع الحياة الدنيا، وقيل هو مفعول له: أي لأجل متاع الحياة الدنيا، وقيل منصوب بنزع الخافض: أي كمتاع، وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول: أي ممتعين، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب. وأما من قرأ برفع متاع فجعله خبر المبتدأ: أي بغيكم متاع الحياة الدنيا، ويكون على أنفسكم متعلق بالمصدر، والتقدير: إنما بغيكم على