قوله (ويقولون) ذكر سبحانه هاهنا نوعا رابعا من مخازيهم، وهو معطوف على قوله (ويعبدون) وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه. قيل والقائلون هم أهل مكة، كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفى به دليلا بينا ومصدقا قاطعا: أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ونطلبها منه كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهبا ونحو ذلك؟ ثم أمره سبحانه أن يجيب عنهم فقال (قل إنما الغيب لله) أي أن نزول الآية غيب، والله هو المختص بعلمه، المستأثر به، لا علم لي ولا لكم ولا لسائر مخلوقاته (فانتظروا) نزول ما اقترحتموه من الآيات (إني معكم من المنتظرين) لنزولها، وقيل المعنى: انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل. قوله (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عنادا ومكرا ولجاجا، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضراء فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله، والمراد بإذاقهم رحمته سبحانه أنه وسع عليهم في الأرزاق، وأدر عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار بعد أن مستهم الضراء بالجدب وضيق المعايش، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضر، وطعنوا في آيات الله واحتالوا في دفعها بكل حيلة، وهو معنى المكر فيها. وإذا الأولى شرطية، وجوابها إذا لهم مكر، وهي فجائية، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال (قل الله أسرع مكرا) أي أعجل عقوبة، وقد دل أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعا، ولكن مكر الله أسرع منه. وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر: أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكرا من باب المشاكلة كما قرر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) قرأ يعقوب في رواية وأبو عمرو في رواية " يمكرون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والمعنى: أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهرا لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدمة وهي - وإذا مس الإنسان الضر - وفي هذه زيادة، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر (هو الذي يسيركم في البر والبحر) ضرب سبحانه لهؤلاء مثلا حتى ينكشف المراد انكشافا تاما، ومعنى تسييرهم في البر أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم لينتفعوا بها ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب، ومعنى تسييرهم في البحر: أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ويسر ذلك لهم ودفع عنهم أسباب الهلاك. وقد قرأ ابن عامر (وهو الذي ينشركم في البحر) بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله - فانتشروا في الأرض - أي ينشرهم سبحانه في البحر فينجي من يشاء ويغرق من يشاء (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث. وقد تقدم تحقيقه (رجرين) أي السفن بهم: أي بالراكبين عليها، وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها الكون في الفلك، والثاني جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة، وثالثها فرحهم، والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة: الأول - جاءتها - أي جاءت الفلك ريح عاصف أو جاءت الريح الطيبة: أي تلقتها ريح عاصف، والعصوف شدة هبوب الريح، والثاني - وجاءهم الموج من كل مكان - أي من جميع الجوانب للفلك والمراد جاء الراكبين فيها، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر، والثالث - ظنوا أنهم أحيط