أصبحوا بها كافرين) الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من (لا تسألوا) لكن ليست هذه المسألة بعينها، بل مثلها في كونها مما لا حاجة إليه ولا توجبه الضرورة الدينية ثم لم يعملوا بها، بل أصبحوا بها كافرين: أي ساترين لها تاركين للعمل بها، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، ولا بد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا، لأن الأمر الذي تدعو الحاجة إليه في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال - فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون - وقال صلى الله عليه وآله وسلم " قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال ". قوله (ما جعل الله من بحيرة) هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه، وجعل ههنا بمعنى سمى كما قال - إنا جعلناه قرآنا عربيا -. والبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة، وهي مأخوذة من البحر، وهو شق الأذن. قال ابن سيده: البحيرة هي التي خليت بلا راع، قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس، وجعل شق أذنها علامة لذلك. وقال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها، وقيل إذا نتجت الناقة خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها. والسائبة: الناقة تسبب، أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزلة. فلا يحبس عن رعى ولا ماء، ولا يركبه أحد قاله أبو عبيد. قال الشاعر:
وسائبة لله تنمى تشكرا * إن الله عافا عامرا ومجاشعا وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعى لها، ومنه قول الشاعر:
عقرتم ناقة كانت لربي * مسيبة فقوموا للعقاب وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، فعند ذلك لا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد. والوصيلة: قيل هي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، إلا أن يموت فيأكلها الرجال والنساء.
والحام: الفحل الحامي ظهره عن أن يركب، وكانوا إذا ركب ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، قال الشاعر:
حماها أبو قابوس في عز ملكه * كما قد حمى أولاد أولاده الفحل وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذبا، لا لشرع شرعه الله لهم ولا لعقل دلهم عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها، يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) أي ولو كانوا جهلة ضالين، والواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام، وقيل للعطف على جملة مقدرة: أي أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم. وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة. وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين