وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور، وقيل هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يخفى عليه شئ من ذلك، ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) أي الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلا منه وإحسانا، وإنما جئ به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة " على " اعتبارا بسبق الوعد به منه، ومن زائدة للتأكيد، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله، والدابة كل حيوان يدب (ويعلم مستقرها) أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في الأصلاب (ومستودعها) موضعها في الأرحام، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها. وقال الفراء: مستقرها حيث تأوى إليه ليلا ونهارا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه، وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام، ووجه تقدم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر. وأما على القول الأول فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة. والمعنى:
وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة وقبل كونها دابة، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه، ثم ختم الآية بقوله (كل في كتاب مبين) أي كل من ما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ: أي مثبت فيه. ثم أكد دلائل قدرته بالتعرض لذكر خلق السماوات والأرض، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) قد تقدم بيان هذا في الأعراف، قيل والمراد بالأيام الأوقات: أي في ستة أوقات كما في قوله - ومن يولهم يومئذ دبره - وقيل مقدار ستة أيام، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام هنا الأيام المعروفة، وهي المقابلة لليالي، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء وليس اليوم إلا عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض، وكان خلق السماوات في يومين والأرضين في يومين وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد في يومين كما سيأتي في حم السجدة. قوله (وكان عرشه على الماء) أي كان قبل خلقهما عرشه على الماء، وفيه بيان تقدم خلق العرش والماء على السماوات والأرضين. قوله (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) اللام متعلقة بخلق: أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملا فيما أمر به ونهى عنه، فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، ويوفر الجزاء لمن كان أحسن عملا من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد، لأنه من أعمال القلب، وقيل المراد بالأحسن عملا الأتم عقلا، وقيل الأزهد في الدنيا، وقيل الأكثر شكرا، وقيل الأتقى لله. قوله (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى: لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء إنكم مبعوثون من بعد الموت فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر وخدع كخدعه. ويجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى القرآن، لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث. وقرأ حمزة والكسائي (إن هذا إلا ساحر) يعنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكسرت إن من قوله (إنكم) لأنها بعد القول. وحكى سيبويه الفتح على تضمين قلت معنى ذكرت، أو على أن بمعنى عل: أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون، على أن الرجاء باعتبار حال المخاطبين: أي توقعوا ذلك ولا تبتوا القول بإنكاره (ولئن أخرنا عنهم العذاب) أي الذي تقدم ذكره في قوله (عذاب يوم كبير) وقيل عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل يوم بدر (إلى أمة معدودة) أي إلى طائفة من الأيام قليلة، لأن ما يحصره العد قليل،