سورة هود الآية (32 - 34) لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين، والقبول أتم، فقال (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر: أي أرسلناه بأني: أي أرسلناه متلبسا بذلك الكلام، وهو أني لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول: أي قائلا إني لكم، والواو في ولقد للابتداء، واللام هي الموطئة للقسم، واقتصر على النذارة دون البشارة، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به، وجملة (أن لا تعبدوا إلا الله) بدل من إني لكم نذير مبين: أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا، أو بنذير، أو بمبين، وجملة (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) تعليلية. والمعنى:
نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار، واليوم الأليم: هو يوم القيامة، أو يوم الطوفان، ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة، ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات فقال (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) والملأ الأشراف كما تقدم غير مرة، ووصفهم بالكفر ذما لهم، وفي دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة (ما نراك إلا بشرا مثلنا) هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوته: أي نحن وأنت مشتركون في البشرية فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوة دوننا، والجهة الثانية (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) ولم يتبعك أحد من الأشراف، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك، والأراذل جمع أرذل وأرذل جمع رذل مثل أكالب وأكلب وكلب، وقيل الأراذل جمع الأرذل كالأساود جمع أسود، وهم السفلة. قال النحاس: الأراذل: الفقراء والذين لا حسب لهم، والحسب الصناعات. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه، قيل له فمن سفلة السفلة؟ قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه. والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية فبشرا في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال وانتصاب بادي الرأي على الظرفية والعامل فيه اتبعك. والمعنى: في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو:
إذا ظهر. قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي. والوجه الثالث من جهات قدحهم في نبوته (وما نرى لكم علينا من فضل) خاطبوه في الوجهين الأولين منفردا وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به وتستحقون ما تدعونه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، فقالوا (بل نظنكم كاذبين) فيما تدعونه، ويجوز أن يكون هذا خطابا للأراذل وحدهم، والأول أولى، لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم، فقال (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) أي أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون