(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) أي أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال أسارير الوجه: أي التي يظهر فيها السرور. وقد تقدم إيضاح هذا، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله. والمعنى: أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عز وجل فقد ربحتم فيه ربحا لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم، والإشارة بقوله (ذلك) إلى الجنة، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم يدل على أنه فوز لا فوز مثله. قوله (التائبون) خبر مبتدأ محذوف: أي هم التائبون، يعني المؤمنون، والتائب الراجع: أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله (التائبون العابدون) رفع بالابتداء وخبره مضمر: أي التائبون ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا: قال: وهذا أحسن، إذ لو كانت هذه أوصافا للمؤمنين المذكورين في قوله (اشترى من المؤمنين) لكان الوعد خاصا بمجاهدين. وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى، وأنها على جهة الشرط: أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود: التائبين العابدين إلى آخرها - وفيه وجهان: أحدهما أنها أوصاف المؤمنين.
الثاني أن النصب على المدح. وقيل إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون، وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ، وخبره العابدون، وما بعده أخبار كذلك: أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص.
و (الحامدون) الذين يحمدون الله سبحانه على السراء والضراء، و (السائحون) قيل: هم الصائمون. وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قوله تعالى - عابدات سائحات - وإنما قيل للصائم سائح، لأنه يترك اللذات كما يتركها السائح في الأرض، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب:
وبالسائحين لا يذوقون فطرة * لربهم والراكدات العوامل وقال آخر: تراه يصلي ليله ونهاره * يظل كثير الذكر لله سائحا قال الزجاج: ومذهب الحسن أن السائحين هاهنا هم الذين يصومون الفرض، وقيل إنهم الذين يديمون الصيام.
وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: السائحون المهاجرون. وقال عكرمة: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر، والسياحة في اللغة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه، و (الراكعون الساجدون) معناه المصلون، و (الآمرون بالمعروف) القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة (والناهون عن المنكر) القائمون بالإنكار على من فعل منكرا: أي شيئا ينكره الشرع (والحافظون لحدود الله) القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين، وهما (والناهون عن المنكر والحافظون) الخ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه، وقيل إن العطف في الصفات يجئ بالواو وبغيرها كقوله - غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب -، وقيل إن الواو زائدة، وقيل هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة، كما في قوله تعالى - ثيبات وأبكارا -، وقوله - وفتحت أبوابها -، وقوله