و (ضرارا) منصوب على المصدرية، أو على العلية (وكفرا وتفريقا وإرصادا) معطوفة على (ضرارا). فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث التفريق بين المؤمنين، لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع الإرصاد لمن حارب الله ورسوله: أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار.
وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب، يقال أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقبا له به. وقال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدوه لهؤلاء وارتقبوا به وصولهم وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله (من قبل) متعلق باتخذوا: أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بحارب: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، فرد الله عليهم بقوله (والله يشهد إنهم لكاذبون) فيما حلفوا عليه، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال (لا تقم فيه أبدا) أي في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل: أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح " من قام رمضان إيمانا به واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) واللام في (لمسجد) لام القسم، وقيل لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء: تثبيته ورفعه. ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقي بها العقوبة.
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائفة: هو مسجد قباء كما روى عن ابن عباس والضحاك والحسن والشعبي وغيرهم. وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأول أرجح لما سيأتي قريبا إن شاء الله، و (من أول يوم) متعلق بأسس: أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه. قال بعض النحاة: إن (من) هنا بمعنى منذ: أي منذ أول يوم ابتدئ ببنائه، وقوله (أحق أن تقوم فيه) خبر المبتدأ.
والمعنى: لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله، لكونه أسس على التقوى من أول يوم، ولكون (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وآله وسلم فيه: أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل فهو أولى من جهة الحال فيه، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. ومعنى محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، وقيل معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار. والأول أولى. وقيل يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعا، وهذا ضعيف جدا. ومعنى محبة الله لهم الرضا عنهم، والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين سبحانه أن بين الفريقين بونا بعيدا. فقال (أفمن أسس بنيانه) والهمزة للإنكار التقريري، والبنيان مصدر كالعمران، وأريد به المبنى، والجملة مستأنفة. والمعنى: أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي تقوى الله ورضوانه خير ممن أسس دينه على ضد ذلك، وهو الباطل والنفاق، والموصول مبتدأ، وخبره خير، وقرئ " أسس بنيانه " على