الإمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف. وقال قطرب والزجاج: معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول حين سار وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له: أي قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال مثل وأرسلها العراك:
أي مخالفين له، ويؤيد ما قاله الأخفش ويونس قراءة أبي حيوة خلف رسول الله. قوله (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم (وقالوا لا تنفروا في الحر) أي قال المنافقون لإخوانهم هذه المقالة تثبيطا لهم وكسرا لنشاطهم وتواصيا بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم (نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون) والمعنى: أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبدا أشد حرا مما فررتم منه فإنكم إنما قررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير من زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين.
فكنت كالساعي إلى مثعب * موائلا من سبل الراعد وجواب لو في (لو كانوا يفقهون) مقدر: أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا. قوله (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) هذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى، فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، وإنما جئ بهما على لفظ الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره، وقليلا وكثيرا منصوبان على المصدرية أو الظرفية: أي ضحكا قليلا وبكاء كثيرا، أو زمانا قليلا وزمانا كثيرا (جزاء بما كانوا يكسبون) أي جزاء بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، وانتصاب جزاء على المصدرية: أي يجزون جزاء (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الرجع متعد كالرد والرجوع لازم، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها وإنما قال (إلى طائفة) لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك. وقيل إنما قال: إلى طائفة، لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف (فاستأذنوك للخروج) معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه (فقل) لهم (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) أي قل لهم ذلك عقوبة لهم، ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله - لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا -. وقرئ بفتح الياء من معي في الموضعين. وقرئ بسكونها فيهما، وجملة (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) للتعليل: أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم رضيتم بالقعود والتخلف أول مرة، وهي غزوة تبوك، والفاء في (فاقعدوا مع الخالفين) لتفريع ما بعدها على ما قبلها، والخالفين جمع خالف كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم من تخلف عن الخروج. وقيل المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدا فيهم، من قولك خلف اللبن: أي فسد بطول المكث في السقاء. ذكر معناه الأصمعي. وقرئ (فاقعدوا مع الخلفين) وقال الفراء: معناه المخالفين.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة أن عبد الله بن أبي قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل - ليخرجن الأعز منها الأذل - فأنزل الله (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله - سواء عليهم استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم -،