سورة براءة الآية (69 - 70) قوله (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) ذكر هاهنا جملة أحوال المنافقين، وأن ذكورهم في ذلك كإناثهم، وأنهم متناهون في النفاق والبعد عن الإيمان، وفيه إشارة إلى نفي أن يكونوا من المؤمنين، ورد لقولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم -، ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم لحال المنافقين فقال: (يأمرون بالمنكر) وهو كل قبيح عقلا أو شرعا (وينهون عن المعروف) وهو كل حسن عقلا أو شرعا قال الزجاج: هذا متصل بقوله - ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم - أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض: أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف (ويقبضون أيديهم) أي يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة والصلة والجهاد فالقبض كناية عن الشح، كما أن البسط كناية عن الكرم. والنسيان الترك: أي تركوا ما أمرهم به، فتركهم من رحمته وفضله، لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، ثم حكم عليهم بالفسق: أي الخروج عن طاعة الله إلى معاصيه، وهذا التركيب يفيد أنهم هم الكاملون في الفسق. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأنه (نار جهنم) و (خالدين فيها) حال مقدرة: أي مقدرين الخلود، وفي هذه الآية دليل على أن وعد يقال في الشر كما يقال في الخير (هي حسبهم) أي كافيتهم لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها، (و) مع ذلك فقد (لعنهم الله) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (ولهم عذاب مقيم) أي نوع آخر من العذاب دائم لا ينفك عنهم. قوله (كالذين من قبلكم) شبه حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب، والكاف محلها رفع على خبرية مبتدأ محذوف: أي أنتم مثل الذين من قبلكم، أو محلها نصب: أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم من الأمم. وقال الزجاج: التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلكم، وقيل المعنى: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحذف المضاف. ثم وصف حال أولئك الكفار الذين من قبلهم، وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا) أي تمتعوا (بخلاقهم) أي نصيبهم الذي قدره الله لهم من ملاذ الدنيا (فاستمتعتم) أنتم (بخلاقكم) أي نصيبكم الذي قدره الله لكم (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) أي انتفعتم به كما انتفعوا به، والغرض من هذا التمثيل ذم هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم لمن قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله. وقد قيل ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة، ثم في حق المنافقين ثانيا، ثم تكريره في حق الأولين ثالثا؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قوله (وخضتم كالذي خاضوا) معطوف على ما قبله: أي كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا، وقيل أصله كالذين فحذفت النون، والأولى أن يقال إن الذي اسم موصول مثل من
(٣٧٩)