سورة الأنفال الآية (74 - 75) ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلبا لما عند الله، وإجابة لداعيه (والذين آووا ونصروا) هم الأنصار والإشارة بقوله (أولئك) إشارة إلى الموصول الأول والآخر، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده، ويجوز أن يكون (بعضهم) بدلا من اسم الإشارة، والخبر (أولياء بعض) أي بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث. وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض). قوله (والذين آمنوا) مبتدأ، وخبره (مالكم من ولايتهم من شئ). قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة " من ولايتهم " بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها: أي مالكم من نصرتهم وإعانتهم، أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم (حتى يهاجروا) فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة (وإن استنصروكم) أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين (فعليكم النصر) أي فواجب عليكم النصر (إلا) أن يستنصروكم (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته. قال الزجاج: ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء. قوله (والذين كفروا) مبتدأ خبره (بعضهم أولياء بعض) أي بعضهم ينصر بعضا ويتولاه في أموره، أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم. قوله (إلا تفعلوه) الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور، وترك موالاة الكافرين (تكن فتنة في الأرض) أي تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك (وفساد كبير) أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا، ثم بين سبحانه حكما آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار، فقال (أولئك هم المؤمنون حقا) أي الكاملون في الإيمان، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة، ثم أخبر سبحانه أن (لهم) منه (مغفرة) لذنوبهم في الآخرة (و) لهم في الدنيا (رزق كريم) خالص عن الكدر طيب مستلذ، ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأولين والأنصار فهو من جملتهم: أي من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، ثم بين سبحانه بأن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات، قالوا: ومنه قول العرب: وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا: ومنه قول قتيلة: ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تشقق ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام، وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه، وقد قيل إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله
(٣٢٩)