والثاني أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر كما في الحديث الصحيح " إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". القول الثالث هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم كما قال سبحانه - وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم -. القول الرابع أنه لا يعذب أحدا بذنب فعله جاهلا لكونه ذنبا. القول الخامس أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها (لمسكم) أي لحل بكم (فيما أخذتم) أي لأجل ما أخذتم من الفداء (عذاب عظيم) والفاء في (فكلوا مما غنمتم) لترتيب ما بعدها على سبب محذوف: أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدر محذوف: أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره، وقيل إن (ما) عبارة عن الفداء: أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و (حلالا طيبا) منتصبان على الحال أو صفة المصدر المحذوف: أي أكلا حلالا طيبا (واتقوا الله) فيما يستقبل فلا تقدموا على شئ لم يأذن الله لكم به (إن الله غفور) لما فرط منكم (رحيم) بكم فلذلك رخص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان.
وقد أخرج أحمد عن أنس قال: استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال:
إن الله قد أمكنكم منهم. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، فأنزل الله (لولا كتاب من الله سبق) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر جئ بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا فقال العباس وهو يسمع: قطعت رحمك فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ولم يرد عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال قوم: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال - من تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم - ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال - إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم -، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ إذ قال - رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا -، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال - ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم - أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. فقال عبد الله: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا سهيل بن بيضاء، فأنزل الله (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) الآية.