ويمكن أن يقال إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة خطره بحيث لا ينسب إلى غير من هو له قال فيه (إذ جعل فيكم أنبياء) ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قال به كما تقول قرابة الملك نحن الملوك، قال فيه (وجعلكم ملوكا) وقيل المراد بالملك: أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعا ملوك بهذا المعنى: وقيل معناه: أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن، وقيل غير ذلك. والظاهر أن المراد من الآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى. فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكا كما جعلهم. قلت: قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان. قوله (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وغير ذلك. والمراد عالمي زمانهم. وقيل إن الخطاب هاهنا لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عدول عن الظاهر لغير موجب، والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيدا لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة.
وقد اختلف في تعيينها، فقال قتادة: هي الشام، وقال مجاهد: الطور وما حوله، وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: أريحاء، وقال الزجاج، دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقول قتادة يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده. والمقدسة: المطهرة، وقيل المباركة (التي كتب الله لكم) أي قسمها وقدرها لهم في سابق علمه وجعلها مسكنا لكم (ولا ترتدوا على أدباركم) أي لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبنا وفشلا (فتنقلبوا) بسبب ذلك (خاسرين) لخير الدنيا والآخرة (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين) قال الزجاج الجبار من الآدميين العاثي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره: إذا أكرهه، وقيل هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعا بحق أو باطل، وقيل إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه. قال الفراء: لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين، جبار من أجبر، ودراك من أدرك. والمراد هنا: أنهم قوم عظام الأجسام طوال متعاظمون، قيل هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل هم من ولد عيص بن إسحاق، وقيل هم من الروم: ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق هي بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع. قال ابن كثير: وهذا شئ يستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص " ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال - رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا -، وقال تعالى - فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين - وقال تعالى - لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم -. وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم، انتهى كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام في شأنه، وما هذا بأول كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة، وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله، ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب