فبما رحمة من الله لنت لهم وهذا معنى قوله صراط الذين أنعمت عليهم أي الطريق الذي أنعمت بها عليهم وهي الرحمة التي أعطتهم التوفيق والهداية في دار التكليف وهي رحمة عناية فكانوا بذلك غير مغضوب عليهم ولا ضالين لما أعطاهم من الهداية فلم يحاروا يقول من غضب الله عليه امنن علينا بالرحمة التي مننت بها على أولئك ابتداء من غير استحقاق حتى وصفتهم بأنهم غير مغضوب عليهم إذ قد مننت عليهم بالهداية فأزالت الضلالة التي هي الحيرة عنهم فمن بالذي يزيل ما استحققناه من غضب الله فيرحمهم الله برحمة الامتنان وهي الرحمة التي في الآية الثالثة بالاسم الرحمن فيزيل عنهم العذاب ويعطيهم النعيم فيما هم فيه بالاسم الرحيم فليس في أم الكتاب آية غضب بل كلها رحمة وهي الحاكمة على كل آية في الكتاب لأنها الأم فسبقت رحمته غضبه وكيف لا يكون ذلك والنسب الذي بين العالم وبين الله إنما هو من الاسم الرحمن فجعل الرحم قطعة منه فلا تنتسب الرحم إلا إليه وما في العالم إلا من عنده رحمة بأمر ما لا بد من ذلك ولا يتمكن أن تعم رحمة المحدث رحمة القديم في العموم لأن الحق يعم علمه كل معلوم والحق لا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء فيرحم الخلق على قدر علمهم كما رحم الله على قدر علمه فكل من غضب من العالم وانتقم فقد رحم نفسه بذلك الانتقام فإنه شفاء له مما يجده من ألم الغضب وصدقة الإنسان على نفسه أفضل الصدقات فإذا رحم نفسه وزال الغضب أعقبته الرحمة وهي الندم الذي يجده الإنسان إذا عاقب أحدا ويقول لو شاء الله كان العفو عنه أحسن لا بد أن يقول ذلك إما دنيا وإما آخرة في انتقامه لنفسه لئلا يتخيل أن إقامة الحدود من هذا القبيل فإن إقامة الحدود شرع من عند الله ما للإنسان فيها تعمل فقد وصل الإنسان بهذا الفعل رحمه وإليه وصول الرحمة فلا بد أن ينال الخلق كلهم رحمة الله فمنهم العاجل والآجل لأنه ما ثم إلا من وصل رحمه فوصله الله من ذلك الوجه ومن قطع رحمه أي بعض رحمه لأن القطع لا يتمكن له أن يعم فإن عين قطع رحم خاص وصل رحم آخر له ففي قطعه وصل وما في وصله قطع فيشفع الموصول من الأرحام والشفاعة مقبولة ويقيم الوزن على المقطوع بالتعريف فإنه لا بد أن يكون أيضا ذلك المقطوع قد قطع رحما له فإذا طلب ممن قطع صلة الرحم عنه يقول له الحق كما آخذ لك آخذ منك ويعلمه بأنه أيضا قد قطع رحما له فيسأل الله العفو والتجاوز فيقول الله له فاعف أنت عن قاطع رحمه فيك حتى أعفو عنك فبالضرورة يقول قد عفوت لأن ذلك الموطن يطلب من الخائف طلب العفو فيعفو فيعفو الله عنه فتناله رحمة الله بعفو هذا ويوصل رحم آخر له فيشفع فيه وهذا معنى قول الله عز وجل يوم القيامة شفعت الملائكة وشفع النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين فيكون منه في عباده ما ذكرناه وأمثاله من كل ما يستدعي الرحمة فإن رحمة الله سبقت غضبه فهي إمام الغضب فلا يزال غضب الله يجري في شأوه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبيد المغضوب عليهم فتنبسط عليهم ويرجع الحكم لها فيهم والمدى الذي يعطيه الغضب هو ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد قوله الحمد لله رب العالمين فالحمد لله رب العالمين هو المدى فأوله الرحمن الرحيم وانتهاؤه الرحمن الرحيم وإنما كان الحمد لله رب العالمين عين المدى فإن في هذا المدى تظهر السراء والضراء ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بضراء ولا سراء في هذا المدى لأنه يعم السراء والضراء فكان رسول الله ص يقول في السراء الحمد لله المنعم المفضل وفي الضراء الحمد لله على كل حال فحمد الله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله عقيب قوله الحمد لله رب العالمين قوله الرحمن الرحيم فالعالم بين هذه الرحمة ورحمة البسملة بما هو عليه من محمود ومذموم وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح قوله تعالى إن مع العسر يسرا ثم إن مع العسر يسرا ولقد أنشد بعضهم في هذا إذا ضاق بك الأمر * ففكر في ألم نشرح * فعسر بين يسيرين * إذا ذكرته فافرح لأنه سبحانه نكر اليسر وأدخل الألف واللام اللتين للعهد والتعريف على العسر أي هذا العسر الثاني هو عين الأول وليس ذلك في اليسر وهو تنبيه عجيب من الله لعباده ليقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله فإنه أرحم الراحمين فإنه إن لم يزد على عبيده في الرحمة بحكم ليس لهم فما يكون أرحم الراحمين وهو أرحم الراحمين بلا شك فوالله لا خاب من
(٥٥١)