أحاطت به رحمة الله من جميع جهاته فاعلم ذلك وإذا صحت الحقائق فليقل الأخرق ما شاء فإن جماعة نازعونا في ذلك ولولا إن رحمة الله بهذه المثابة من الشمول لكان القائلون بمثل هذا لا ينالهم رحمة الله أبدا فالله أسأله أن لا يلحقنا بالجاهلين فإنه ما ثم صفة ولا عتوبة أقبح من الجهل فإن الجهل مفتاح كل شر ولهذا قال لمحمد ص فلا تكونن من الجاهلين خاطبه بمثل هذا الخطاب لحداثة سنه وقوة شبابه فقابله بخطاب قوي في النهي عن ذلك وقال تعالى لنوح ع لما لم يكن له قوة الشباب وكان قد شاخ وحصل في العمر الذي لا يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة إني أعظك أن تكون من الجاهلين فرفق به في الخطاب حين وعظه فإنه لا بد من الفرق بين خطاب الشباب وخطاب الشيوخ كما أنه لا بد من الفرق في الخطاب بين الأحوال كما نفرق نحن في الثناء على الله بالأحوال فنقول في خطاب السراء الحمد لله المنعم المفضل ونقول في الضراء الحمد لله على كل حال لاختلاف الباعث على الحمد علمنا ذلك رسول الله ص بفعله فأما الرحماء من عباد الله بعباد الله بل بخلق الله مطلقا فإن الله يسرع إليهم بالرحمة عند ما يلقونه إذا رحموا الخلق لرحمة تقوم بنفوسهم بعطفهم على خلق الله فيرحمهم الله فإنها أعمالهم ترد عليهم كما ورد في الخبر فبرحمتهم رحمهم الله سبحانه فلا تحالف ولا تشاقق * وكن صدوقا ولا تفارق فمن رحم خلق الله فإنما رحم نفسه ثم إن لله رحمة أخرى بهم زائدة على ما رحمهم به من أجل رحمتهم بخلق الله التي هي من أعمالهم وصورتها إن الراحم منا إذا رحم خلقا من خلق الله فلا يخلو إما أن تكون رحمته به إزالة ما يؤلم ذلك الخلق المرحوم خاصة أو يزيده مع ذلك إحسانا مثل من يخرج شخصا من السجن استحق العذاب وحال بينه وبين نزول العذاب به بشفاعة منه أو يكون هو الآخذ له ثم يعقبه بعد هذا الأمان إحسانا إليه بتولية أو مال أو خلع أو تقريب فذلك أمر آخر فإذا رحم الله عبدا بعلمه الذي رحم العبد به حيوانا مثله إما بإزالة عذاب أو أضاف إلى ذلك زيادة إحسان فإن الله إذا وفاه رحمة جزاء عمله كان ما كان فإن الله يزيده على ذلك كما زاد هذا العبد على ما ذكرنا أو يزيد ابتداء منة منه تعالى لذلك قال الراحمون يرحمهم الرحمن ولم يقبل يرحمهم الرحيم لأنه رحمن الدنيا والآخرة والرحيم اختصاص الرحمة بالآخرة وأما قوله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء لأنكم تشاهدون أصحاب البلايا والزوايا وتتجاوزون عنهم فترحمونهم عن أمر الله بالرحمة التي تطلبها أحوالهم كل على حسب حاله يرحم وليس في السماء إلا الملائكة فترحمنا بالاستغفار وهو قوله تعالى ويستغفرون لمن في الأرض ثم قال ألا إن الله هو الغفور الرحيم وأما قوله في هذا الباب ونسيناه في هذه المنازلة فهو حد نسيان ذلك الإنسان الله في الأشياء فما عاد عليه إلا نسيانه وأضافه الحق إليه فقال نسوا الله فنسيهم أي تركوا حق الله فترك الله الحق الذي يستحقونه بأجرامهم فلم يؤاخذهم ولا آخذهم أخذ الأبد فغفر لهم ورحمهم وهذا يخالف ما فهمه علماء الرسوم فإنه من باب الإشارة لا من باب التفسير لأن الناسي هنا إذا لم ينسب إلا حق الله الذي أمره الله بإتيانه شرعا فقد نسي الله فإنه ما شرعه له إلا الله فترك حق الله فأظهر الله كرمه فيه فترك حقه ولم يكن حق مثل هذا إلا ما يستحقه وهو العقاب فعفا عنه تركا بترك مقولا بلفظ النسيان وأما نهيه تعالى إيانا أن نكون كالذين نسوا الله فنسيهم فهو صحيح فإنها وصية إلهية نهانا أن ننسى الله مثل ما نسوة هؤلاء لنقوم بحق الله ونقيم حق الله في الأشياء على نية صالحة وحضور مع الله فيجازينا الله جزاء استحقاق استحققناه بأعمالنا التي وفقنا الله لها والذين نسوا الله إنما ترك الله ما استحقوه من العقاب كما تركوا حق الله لا غير ثم إن أفضل عليهم أفضل عليهم منة منه ابتداء وإفضاله على العالمين المؤدين حقوق الله ليس منة فإذا زاد على ما يطلبه عملهم ذلك هو الامتنان كما نالوا ما استحقوا به هذا الثواب من طريق المنة فاعلم ذلك ألا ترى الله يقول في تمام هذه الآية لما قال ولا تكونوا كالذين نسوا الله فنسيهم لم يقل إنهم هم الفاسقون بل قال إن المنافقين هم الفاسقون فابتدأ كلاما آخر ما فيه ضمير يعود على هؤلاء المذكورين وكل منافق فاسق لأنه خارج من كل باب له فيخرج للمؤمنين بصورة ما هم عليه ويخرج للكافرين بصورة ما هم عليه وقد تقدم في هذا الكتاب مرتبة المنافقين في المنازل فتنبه لما نبهتك عليه وكن من العالمين الذين يوفون بعهد الله
(٥٥٢)