عليها في نزوله إذ أنزل وبحسب ما يكون عليه القلب المتخذ عرشا لاستواء القرآن عليه من الصفة يظهر القرآن بتلك الصفة في نزوله وذلك في حق بعض التالين وفي حق بعضهم تكون الصفة للقرآن فيظهر عرش القلب بها عند نزوله عليه سئل الجنيد رضي الله عنه عن المعرفة والعارف فقال لون الماء لون إنائه ولو سئل عارف عن القرآن والقلب المنزل عليه لأجاب بمثل هذا الجواب واعلم أن الله نعت العرش بما نعت به القرآن فجاء القرآن مطلقا من غير تقييد وجاء ذكر العرش مطلقا من غير تقييد فالقرآن المطلق للعرش المطلق أو العرش المطلق للقرآن المطلق بحسب ما يقع به الشهود من المؤثر والمؤثر فيه والعرش المقيد بما قيد به القرآن فقرآن عظيم لعرش عظيم وقرآن كريم لعرش كريم وقرآن مجيد لعرش مجيد فكل قرآن مستو على عرشه بالصفة الجامعة بينهما فلكل قلب قرآن من حيث صفته مجدد الإنزال لا مجدد العين والدرجات الرفيعة لذي العرش كالآيات والسور للقرآن فأما القرآن المطلق فمثل قوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن والعرش المطلق في قوله رفيع الدرجات ذو العرش فالقلب ترتفع درجاته بارتفاع درج آيات القرآن ولهذا يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارق كما كنت تقرأ وينتهي بالرقي إلى آخر آية ينتهي إليها بالقراءة والدرجات عين المنازل فإذا نزل القرآن على قلب عبد وظهر فيه حكمه واستوى عليه بجميع ما هو عليه مطلقا وكان خلقا لهذا القلب كان ذلك القلب عرشا له سألت عائشة عن خلق رسول الله ص فقالت كان خلقه القرآن فما من آية في القرآن إلا ولها حكم في قلب هذا العبد لأن القرآن لهذا نزل ليحكم لا ليحكم عليه فكان عرشا له مطلقا كان رسول الله ص في تلاوته القرآن إذا مر بآية نعيم حكمت عليه بأن يسأل الله من فضله فكان يسأل الله من فضله وإذا مر بآية عذاب ووعيد حكمت عليه بالاستعاذة فكان يستعيذ وإذا مر بآية تعظيم لله حكمت عليه بأن يعظم الله ويسبحه بالنوع الذي أعطته تلك الآية من الثناء على الله وإذا مر بآية قصص وما مضى من الحكم الإلهي في القرون قبله حكمت عليه بالاعتبار فكان يعتبر وإذا مر بآية حكم حكمت عليه إن يقيم في نفسه من يوجه عليه ذلك الحكم فيحكم عليه به فكان يفعل ذلك وهذا هو عين التدبر لآيات القرآن والفهم فيه ومتى لم يكن التالي حاله في تلاوته كما ذكرنا فما نزل على قلبه القرآن ولا كان عرشا لاستوائه لأنه ما استوى عليه بهذه الأحكام وكان نزول هذا القرآن أحرفا ممثلة في خياله كانت حصلت له من ألفاظ معلمه إن كان أخذه عن تلقين أو من حروف كتابته إن كان أخذه عن كتابة فإذا أحضر تلك الحروف في خياله ونظر إليها بعين خياله ترجم اللسان عنها فتلاها من غير تدبر ولا استبصار بل لبقاء تلك الحروف في حضرة خياله وله أجر الترجمة لا أجر القرآن ولم ينزل على قلبه منه شئ كما قال رسول الله ص في حق قوم من حفاظ حروف القرآن يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أي ينزل من الخيال الذي في مقدم الدماغ إلى اللسان فيترجم به ولا يجاوز حنجرته إلى القلب الذي في صدره فلم يصل إلى قلبه منه شئ وقال فيهم إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا ترى فيه أثرا من دم الرمية وكلامنا ليس هو مع من هذه صفته من التالين وليس التالي إلا من تلاه عن قلبه والقرآن صفة ربه وصفة ذاته والقلب المؤمن به التقى الورع قد وسعه فهذا هو العرش الذي وسع استواء الحق الذي هو رفيع الدرجات ذو العرش وما أحسن ما نبه الله على صاحب هذا المقام الذي كان قلبه عرشا للقرآن ذوقا وتجليا فيعلم لذوقه وخبرته اتصاف الرحمن بالاستواء على العرش ما معناه وأمر من ليس يعلم ذلك أن يسأل من يعلمه علم خبرة من نفسه لا علم تقليد فقال تعالى ثم استوى على العرش الرحمن فاسئل به خبيرا أي فالمسئول الذي هو بهذه الصفة من الخبرة يعلم الاستواء كما يعلمه العرش الذي استوى عليه الرحمن لأن قلبه كان عرشا لاستواء القرآن كما قررناه فانظر ما أعجب تعليم الله عباده المتقين الذي قال فيهم إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا واتقوا الله ويعلمكم ومعناه أن يفهمكم الله معاني القرآن فتعلموا مقاصد المتكلم به لأن فهم كلام المتكلم ما هو بأن يعلم وجوه ما تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ عليه أهل ذلك اللسان وإنما الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكلام هل قصد جميع الوجوه التي يتضمنها ذلك الكلام أو بعضها فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكلام أو الفهم عن المتكلم وهو المطلوب فالفهم عن المتكلم ما يعلمه لا من نزل القرآن على قلبه وفهم الكلام للعامة فكل من فهم من العارفين عن المتكلم فقد فهم الكلام
(١٢٨)