الخير، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة. ومما يدل على تقييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى - وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا - فلا يدخل في الظن المأمور باجتنابه شئ من الظن المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كيادا للدين وشذوذا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها. ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال (ولا تجسسوا) التجسس:
البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم، قرأ الجمهور " تجسسوا " بالجيم، ومعناه ما ذكرنا. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء. قال الأخفش:
ليس يبعد أحدهما من الآخر، لأن التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتجسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره قاله ثعلب (ولا يغتب بعضكم بعضا) أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه، والغيبة: أن تذكر الرجل بما يكرهه، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. ذكر معناه الزجاج. وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفي، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية، فضلا عن كونه محرما شرعا (فكرهتموه) قال الفراء: تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا، والمعنى: فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا قال الرازي: الفاء في تقدير جواب كلام، كأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: عرض عليكم ذلك فكرهتموه (واتقوا الله) بترك ما أمركم باجتنابه (إن الله تواب رحيم) لمن اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم " لو أتيت عبد الله ابن أبي، فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الآية ". وقد روى نحو هذا من وجوه أخر. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال: ما وجدت في نفسي من شئ ما وجدت في نفسي من هذه الآية، إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم يحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله. وأخرج ابن