بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وآله وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتدأ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع. قوله (وقاتلوا المشركين كافة) أي جميعا، وهو مصدر في موضع الحال. قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة ولا يثنى ولا يجمع (كما يقاتلونكم كافة) أي جميعا. وفيه دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض (واعلموا أن الله مع المتقين) أي ينصرهم ويثبتهم، ومن كان الله معه فهو الغالب، وله العاقبة والغلبة. قوله (إنما النسئ زيادة في الكفر) قرأ نافع في رواية ورش عنه النسئ بياء مشددة بدون همز. وقرأ الباقون بياء بعدها همزة. قال النحاس: ولم يرو أحد عن نافع هذه القراءة إلا ورش وحده، وهو مشتق من نسأه وأنسأه: إذا أخره، حكى ذلك الكسائي. قال الجوهري: النسئ فعيل بمعنى مفعول من قولك نسأت الشئ فهو منسوء: إذا أخرته، ثم تحول منسوء إلى نسئ كما تحول مقتول إلى قتيل. قال ابن جرير: في النسئ بالهمزة معنى الزيادة يقال نسأ ينسأ:
إذا زاد، قال: ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال تعالى - نسوا الله فنسيهم -، ورد على نافع قراءته.
وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر. وهكذا في غيره. وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسئ الذي كانوا يفعلونه. وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد، ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله:
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما وفيه يقول قائلهم * ومنا ناسئ الشهر القلمس * وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسئ زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. قوله (يضل به الذين كفروا) قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر (يضل) على البناء للمعلوم. وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول. ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسئ، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة. وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد. وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب (يضل) بضم الياء وكسر الضاد على أنه فاعله الموصول ومفعوله محذوف، ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه ومفعوله الموصول. وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل. وقرئ " نضل " بالنون. قوله (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) الضمير راجع إلى النسئ: أي يحلون النسئ عاما ويحرمونه عاما، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه: أي يحلونه عاما بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، ويحرمون عاما: أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته. قوله (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا. والمعنى: إنهم لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة،