معنى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال (ليبعثن عليهم) أي ليرسلن عليهم ويسلطن كقوله - بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد - (إلى يوم القيامة) غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم وقد كانوا أقماهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى (يسومهم) يذيقهم، وقد تقدم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله (إن ربك لسريع العقاب) يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء (وإنه لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة (وقطعناهم في الأرض) أي فرقناهم في جوانبها، أو شتتا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، و (أمما) منتصب على الحال أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا، وجملة (منهم الصالحون) بدل من " أمما "، قيل هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، وقيل هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدم بيانه قبل هذا (ومنهم دون ذلك) أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل (دون ذلك) الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به قال النحاس (دون) منصوب على الظرف ولا نعلم أحدا رفعه (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) أي امتحناهم بالخير والشر رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي (فخلف من بعدهم خلف) المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض قال أبو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غيره. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للردئ من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان ابن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع (ورثوا الكتاب) أي التوراة من أسلافهم يقرؤونها ولا يعملون بها (يأخذون عرض هذا الأدنى) أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والأدنى مأخوذ من الدنو، وهو القرب: أي يأخذون عرض هذا الشئ الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها، وقيل إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط: أي إنهم يأخذون عرض الشئ الدنئ الساقط (ويقولوا سيغفر لنا) أي يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، وجملة (يأخذون) يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم أو في محل نصب على الحال، وجملة (يقولون) معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) في محل نصب على الحال: أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل الضمير في (يأتهم) ليهود المدينة: أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) أي التوراة (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة (ودرسوا ما فيه) معطوفة على (يؤخذ) على