المقالة وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير والصحيح بالسقيم وفاسد الرأي بصحيح الرواية. ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا أمرهم باتباعه ونهى عن مخالفته فقال - ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا - ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد، لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفين للناس بما لم يكلفهم الله به. وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلدة لآراء الرجال مع وجود كتاب الله، ووجود سنة رسوله، ووجود من يأخذونهما عنه، ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم. قوله (قل أمر ربي بالقسط) القسط: العدل، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء، وقيل القسط هنا هو لا إله إلا الله، وفى الكلام حذف: أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه.
قوله (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) معطوف على المحذوف المقدر: أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم، أو في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، على أن المراد بالسجود الصلاة (وادعوه مخلصين له الدين) أي ادعوه أو اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء، أو العبادة له، وقيل وحدوه ولا تشركوا به.
قوله (كما بدأكم تعودون) الكاف نعت مصدر محذوف. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. والمعنى: كما أنشأكم في ابتداء الخلق يعيدكم، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، وقيل كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شئ، فيكون مثل قوله تعالى - ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة - وقيل كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب (فريقا هدى) منتصب بفعل يفسره ما بعده، وقيل منتصب على الحال من المضمر في تعودون: أي تعودون فريقين: سعداء وأشقياء ويقويه قراءة أبي " فريقين فريقا هدى "، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار. قوله (إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) تعليل لقوله (وفريقا حق عليهم الضلالة) أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله، ومع هذا فإنهم (يحسبون أنهم مهتدون) ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة، وهذا أشد في تمردهم وعنادهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله - والذين إذا فعلوا فاحشة - قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: والله ما أكرم الله عبدا قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمر بها، ولكن رضى لكم بطاعته ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (أمر ربي بالقسط) قال: بالعدل (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) قال: إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها (كما بدأكم تعودون) قال: شقي وسعيد وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (كما بدأكم تعودون) الآية قال: إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال - هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن - ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وأخرج ابن جرير عن جابر في الآية قال: يبعثون على ما كانوا عليه: المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه ذكر القدرية فقال: قاتلهم الله أليس قد قال الله تعالى (كما بدأكم تعودون. فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة). وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية: يقول كما خلقناكم أول مرة كذلك تعودون.