ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها. قيل وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان، وقيل لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني " ونحو ذلك. قوله (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) أي ما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شئ. وقيل المعنى: ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شئ: وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين من المؤمنين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك كما سيأتي عند ذكر السبب:
قيل وهذا الترخيص كان في أول الإسلام، وكان الوقت وقت تقية، ثم نزل قوله تعالى - وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره - فنسخ ذلك: قوله (ولكن ذكرى لهم)، ذكرى في موضع نصب على المصدر، أو رفع على أنها مبتدأ، وخبرها محذوف: أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى. والمعنى على الاستدراك من النفي السابق: أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز. أما على التفسير الأول فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير (لعلهم يتقون) الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم. وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جدا. قوله (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يجب عليهم العمل به والدخول فيه لعبا ولهوا ولا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأمورا بإبلاغهم الحجة. وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقيل المعنى: أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعبا ولهوا كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها، وقيل المراد بالدين هنا العيد: أي اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا، وجملة (وغرتهم الحياة الدنيا) معطوفة على (اتخذوا) أي غرتهم حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا - إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين -. قوله (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت) الضمير في (به) للقرآن أو للحساب. والإبسال: تسليم المرء نفسه للهلاك، ومنه أبسلت ولدي: أي رهنته في الدم، لأن عاقبة ذلك الهلاك. قال النابغة:
ونحن رهنا بالإفاقة عامرا * بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا أي فهلك، والدرداء: كتيبة كانت لهم معروفة بهذا الاسم، فالمعنى: وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس بما كسبت: أي ترتهن وتسلم للهلكة، وأصل الإبسال: المنع، ومنه شجاع باسل: أي ممتنع من قرنه.
قوله (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) العدل هنا: الفدية. والمعنى: وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية لا يؤخذ منها ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك، وفاعل (يؤخذ) ضمير يرجع إلى العدل، لأنه بمعنى المفدى به كما في قوله - ولا يؤخذ منها عدل - وقيل فاعله منها، لأن العدل هنا مصدر لا يسند إليه الفعل، وكل عدل منصوب على المصدر: أي عدلا كل عدل، والإشارة بقوله (أولئك) إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا، وحبره (الذين أبسلوا بما كسبوا) أي هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا هم الذين سلمو للهلاك بما كسبوا، و (لهم شراب من حميم) جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف حال هؤلاء؟ فقيل لهم شراب من حميم، وهو الماء الحار، ومثله قوله تعالى - يصب من فوق رؤوسهم الحميم - وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم. قوله (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ: أي