مسألة جليلة القدر لا يعلمها كثير من الناس أعني هذه الأمور التي خرجت من الغيب إلى الشهادة ثم انتقلت إلى الغيب وهي الأعراض الكونية هل هي أمور وجودية عينية أو هي أحوال لا تتصف بالعدم ولا بالوجود ولكن تعقل فهي نسب وهي من الأسرار التي حار الخلق فيها ليست هي الله ولا لها وجود عيني فتكون من العالم أو تكون مما سوى الله فهي حقائق معقولة إذا نسبتها إلى الله عز وجل قبلها ولم تستحل عليه وإذا نسبتها إلى العالم قبلها ولم تستحل عليه ثم إنها تنقسم إلى قسمين في حق الله فمنها ما يستحيل نسبته إلى الله فلا تنسب إليه ومنها ما لا تستحيل عليه فالذي لا يستحيل على الله يقبله العالم كله إلا نسبة الإطلاق فإن العالم لا يقبله ونسبة التقييد يقبله العالم ولا يقبله الله وهذه الحقائق المعقولة لها الإطلاق الذي لا يكون لسواها فيقبلها الحق والعالم وليست من الحق ولا من العالم ولا هي موجودة ولا يمكن أن ينكر العقل العالم بها فمن هنا وقعت الحيرة وعظم الخطب وافترق الناس وحارت الحيرات فلا يعلم ذلك إلا الله ومن أطلعه الله على ذلك وذلك هو الغيب الصحيح الذي لا يوجد منه شئ فيكون شهادة ولا ينتقل إليه بعد الشهادة وما هو محال فيكون عدما محضا ولا هو واجب الوجود فيكون وجودا محضا ولا هو ممكن يستوي طرفاه بين الوجود والعدم وما هو غير معلوم بل هو معقول معلوم فلا يعرف له حد ولا هو عابد ولا معبود وكان إطلاق الغيب عليه أولى من إطلاق الشهادة لكونه لا عين له يجوز أن تشهد وقتا ما فهذا هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه حيث قال عالم الغيب وما قرنه بالشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا والغيب الذي قرنه بالشهادة هو الذي يقابل الشهادة فوصف الحق نفسه بعلم المتقابلين فقال عالم الغيب والشهادة هذا هو المراد هنا وإن اشترك هذا مع الغيب في الاسمية فإن قلت فما فائدة الاستثناء في قوله إلا من ارتضى من رسول قلنا تدبر ما هو الغيب الذي اطلع عليه الرسل وبما ذا ربطه فتعلم إن ذلك علم التكليف الذي غاب عنه العباد ولهذا جعل له الملائكة رصدا حذرا من الشياطين أن تلقي إليه ما ينقله إلى الخلق ويعمل به في نفسه من التكليف الذي جعله الله طريقا إلى سعادة العباد من أمر ونهي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم فكأنه مستثنى منقطع أي انقطع هذا الغيب من ذلك الغيب انقطاعا حقيقيا لا انقطاع جزء من كل لما وقع الاشتراك في لفظة الغيب لذلك قلنا مستثنى ولما خالفه في الحقيقة قلنا منقطع بخلاف المستثنى المتصل فإنه أيضا منقطع ولكن بالحال لا بالذات تقول في المتصل ما في الدار إنسان إلا زيدا فهذا المستثنى متصل لأنه إنسان قد فارق غيره من الأناسي بحالة كونه في الدار لا بحقيقته إذ لم يكن في الدار إنسان إلا هو فالانقطاع في الحال لا غير فإذا قلت ما في الدار إنسان إلا حمارا فهذا منقطع بالحقيقة والحال فكذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسل بالرصد من الملائكة من أجل المردة من الشياطين هو الرسالة التي يبلغونها عن الله ولهذا قال ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم فأضاف الرسالة إلى قوله ربهم لما علموا إن الشياطين لم تلق إليهم أعني إلى الرسل شيئا فتيقنوا إن تلك رسالة من الله لا من غيره وهل هذا القدر الذي عبر عنه في هذه السورة المعينة في قوله إلا من ارتضى من رسول هل ذلك الإعلام لهذا الرسول بوساطة الملك أو لم يكن في هذا الوحي الخاص ملك وهو الأظهر والأوجه والأولى وتكون الملائكة تحف أنوارها برسول الله ص كالهالة حول القمر والشياطين من ورائها لا تجد سبيلا إلى هذا الرسول حتى يظهر الله له في إعلامه ذلك من الوحي ما شاء ولكن من علم التكليف الذي غاب عنه وعن العباد علمه خلافا لمخالفي أهل الحق في ذلك إذ يرون أن العبد يعلم بعض القربات إلى الله بعقله لا كلها وهذا القول لا يصح منه شئ فلا يعلم القربة إلى الله التي تعطي سعادة الأبد للعبد إلا من يعلم ما في نفس الحق ولا يعلم ذلك أحد من خلق الله إلا بإعلام الله كما قال ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء فليس في كتابنا هذا ولا في غيره أصعب من تصور هذه المسألة على كل طائفة واعلم أن العبد إذا أوقفه الحق تعالى كما قلنا بين الله وبين كل ما سواه وهذه بينية إله وعبد لا بينية حد فإن الله يتعالى جده أن يعلم حده فإذا وقف العبد في هذا المقام علم أنه معتنى به حيث شغله الله تعالى بمطالعة الانفعالات عنه وإيجاد الأعيان من قدرته تعالى واتصافها بالوجود في حضرة إمكانها ما أخرجها منها ولا حال بينها وبين موطنها لكنه كساها خلعة الوجود فاتصفت به بعد أن كانت موصوفة بالعدم مع ثبوت العين في الحالين وبقي الكلام في ذلك الوجود الذي كساه الحق لهذا الممكن ولم يخرجه عن موطنه ما هو ذلك الوجود هل كان معدوما ووجد فالوجود لا يكون عدما
(٧٩)