ولو كانت الجوارح تتألم لا نكرت كما تنكر النفس وما كانت تشهد عليه قال تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم وقال إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا فاسم كان هو النفس تسأل النفس عن سمعه وبصره وفؤاده كما قررناه يقال له ما فعلت برعيتك ألا ترى الوالي الجائر إذا أخذه الملك وعذبه عند استغاثة رعيته به كيف تفرح الرعية بالانتقام من واليها كذلك الجوارح يكشف لك يوم القيامة عن فرحها ونعيمها بما تراه في النفس التي كانت تدبرها في ولايتها عليه لأن حرمة الله عظيمة عند الجوارح ألا ترى العصاة من المؤمنين كيف يميتهم الله في النار إماتة كما ينام المريض هنا فلا يحس بالألم عناية من الله بمن ليس من أهل النار حتى إذا عادوا حمما أخرجوا من النار فلو كانت الجوارح تتألم لوصفها الله بالألم في ذلك الوقت ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة فإن قلت فما فائدة حرقها حتى تعود حمما قلنا كل محل يعطي حقيقته فذلك المحل يعطي هذا الفعل في الصور ألا ترى الإنسان إذا قعد في الشمس يسود وجهه وبدنه والشقة إذا نشرت في الشمس وتتبعت بالماء كلما نشفت تبيض فهل أعطى ذلك إلا المحل المخصوص والمزاج المخصوص فلم يكن المقصود العذاب ولو كان لم يمتهم الله فيها إماتة فإن محل الحياة في النفوس يطلب النعيم أو الألم بحسب الأسباب المؤلمة والمنعمة فألقوا بل هي الموصوفة بما ذكرناه وإذا أحياهم الله تعالى وأخرجهم ونظروا إلى تغير ألوانهم وكونهم قد صاروا حمما ساءهم ذلك فينعم الله عليهم بالصورة التي يستحسنونها فينشئهم عليها ليعلموا نعمة الله عليهم حين نقلهم مما يسوؤهم إلى ما يسرهم فقد علمت يا أخي من يعذب منك ومن يتنعم وما أنت سواك فلا تجعل رعيتك تشهد عليك فتبوء بالخسران وقد ولاك الله الملك وأعطاك اسما من أسمائه فسماك ملكا مطاعا فلا تجر ولا تحف فإن ذلك ليس من صفة من ولاك وإن الله يعاملك بأمر قد عامل به نفسه فأوجب على نفسه كما أوجب عليك ودخل لك تحت العهد كما أدخلك تحت العهد فما أمرك بشئ إلا وقد جعل على نفسه مثل ذلك هذا لتكون له الحجة البالغة ووفى بكل ما أوجبه على نفسه وطلب منك الوفاء بما أوجبه عليك هذا كله إنما فعله حتى لا تقول أنا عبد قد أوجب على كذا وكذا ولم يتركني لنفسي بل أدخلني تحت العهد والوجوب فيقول الله له هل أدخلتك فيما لم أدخل فيه نفسي ألم أوجب على نفسي كما أوجبت عليك ألم أدخل نفسي تحت عهدك كما أدخلتك تحت عهدي وقلت لك إن وفيت بعهدي وفيت بعهدك قال تعالى قل يا محمد فلله الحجة البالغة وهذا معنى قوله تعالى رب احكم بالحق وهل يحكم الله إلا بالحق ولكن جعل الحق نفسه في هذه الآية مأمورا لنبيه ع فإن لفظة احكم أمر وأمره سبحانه أن يقول له ذلك قال تعالى قل يا محمد رب احكم بالحق وأكثر من هذا النزول الإلهي إلى العباد ما يكون فيا أيها العبد أليس هذا من كرمه أليس هذا من لطفه ألم يف سبحانه بكل ما أوجبه على نفسه ألم يف بعهد كل من وفى له بعهده ألم يصفح وعفا عن كثير مما لو شاء آخذ به عباده أين أنت أين نظرك من هذا الفضل العظيم من رب قاهر قادر لا يعارض ولا يغالب واعلم أن سبب وصف القبضتين بالتسبيح كونهما مقبوضتين للحق تعالى فجعل القبضتين في يده فقال هؤلاء للنار ولا أبالي وهؤلاء للجنة ولا أبالي فهم ما عرفوا إلا الله فهم يسبحونه ويمجدونه لأنهم في قبضته ولا خروج لهم عن القبضة ثم إن الله بكرمه لم يقل فهؤلاء للعذاب ولا أبالي وهؤلاء للنعيم ولا أبالي وإنما أضافهم إلى الدارين ليعمروهما وكذا ورد في الخبر الصحيح أن الله لما خلق الجنة والنار قال لكل واحدة منها لها على ملؤها أي أملؤها سكانا إذ كان عمارة الدار بساكنها كما قال القائل وعمارة الأوطان بالسكان لأنها محل ولا تكون محلا إلا بالحلول فيها ولهذا يقول الله لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد فإذا وضع الجبار فيها قدمه قالت قطني قطني وفي رواية قط قط أي قد امتلأت فقد ملأها بقدمه على ما شاء سبحانه من علم ذلك فيخلق الله فيها خلقا يعمرونها قال تعالى أن لهم قدم صدق أي سابقة بأمر قد أعلمهم به قبل أن يعطيهم ذلك ثم أعطاهم فصدق فيما وعدهم به وقد وعد النار بأن يملأها فكونه إذ يملأها بقدمه أي بسابقة قوله إنه سيملأها فصدق لها في ذلك بأن خلق فيها خلقا يعمرونها وأضاف القدم إلى الجبار لأن هذا الاسم للعظمة والنار موجودة من العظمة والجنة موجودة من الكرم فلهذا اختص اسم الجبار بالقدم للنار وأضافه إليه فيستروح من هذا عموم الرحمة في الدارين وشمولها حيث ذكرهما ولم يتعرض لذكر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشئ من
(٧٦)