عن رتبة سيده وتخليص عبوديته لله من غيره كما أقر له بذلك في قبضة الذرية يريد الحق أن يستصحبه ذلك الإقرار في حياته الدنيا موضع الحجاب والستر فإن الحق له التقدم على الخلق بالوجود من جميع الوجوه وبالمكانة والرتبة فكان ولا مخلوق هذا تقدم الوجود وقدر وقضى وحكم وأمضى إمضاء لا يرد ولا يقضى عليه فهذا تقدم الرتبة فما تشاءون إلا أن يشاء الله أن تشاؤا فوجب التأخر عن رتبة الحق من جميع الوجوه فإن العبد أعطى الكثرة لتكون الأحدية له تعالى وأعطى كل مخلوق أحدية التمييز لتكون عنده الأحدية ذوقا فيعلم إن ثم أحدية ليعلم منها الأحدية الإلهية حتى يشهد بها لله تعالى إذ لو لم يكن لمخلوق أحدية ذوقا يتميز بها عما سواه ما علم إن لله أحدية يتميز بها عن خلقه فلا بد منها فللكثرة أحدية الكثرة ولكل عدد أحدية لا تكون لعدد آخر كالاثنين والثلاثة إلى ما فوق ذلك مما لا يتناهى وجودا عقليا فلكل كثرة من ذلك أحدية تخصه وعلى كل حال أوجب الحق على عبده أن يتأخر عن رتبة خالقه كما أخر سبحانه علمنا به عن علمنا بأنفسنا فوجود العلم المحدث به متأخر بالوجود عن وجود العلم المحدث بنا وجعل المفاضلة في العالم بعضه على بعض لنعرف المفاضلة ذوقا من نفوسنا فنعلم من ذلك فصل الحق علينا وإن تأخر علمنا به عن علمنا بنفوسنا لنعلم أن علمنا بنفوسنا إنما كان للدلالة على علمنا به فعلمنا أنا مطلوبون له لا لأنفسنا وأعياننا لأن الدليل مطلوب للمدلول لا لنفسه ولهذا لا يجتمع الدليل والمدلول أبدا فلا يجتمع الخلق والحق أبدا في وجه من الوجوه فالعبد عبد لنفسه والرب رب لنفسه فالعبودية لا تصح إلا لمن يعرفها فيعلم أنه ليس فيها من الربوبية شئ والربوبية لا تصح إلا لمن يعرفها فيعرف أنه ليس فيها من العبودية شئ فأوجب على عباده التأخر عن ربوبيته فشرع له الصلاة ليسميه بالمصلي وهو المتأخر عن رتبة ربه ونسب الصلاة إليه تعالى ليعلم أن الأمر يعطي تأخر العلم الحادث به عن العلم الحادث بالمخلوق فقال هو الذي يصلي عليكم وملائكته وقال فصل لربك ولما علمنا أنه من تأخر عن أمر فقد انقطع عنه علمنا إن كل واحد قد تميز في رتبته عن الآخر بلا شك وإن أطلق على كل واحد ما أطلق على الآخر فيتوهم الاشتراك وهو لا اشتراك فيه فإن الرتبة قد ميزته فيقبل كل واحد ذلك الإطلاق على ما تعطيه الرتبة التي تميز بها فإنا نعلم قطعا إن الأسماء الإلهية التي بأيدينا تطلق على الله وتطلق علينا ونعلم قطعا بعلمنا برتبتنا وبعلمنا برتبة الحق إن نسبة تلك الأسماء التي وقع في الظاهر الاشتراك في اللفظ بها إلى الله غير نسبتها إلينا فما انفصل عنا إلا بربوبيته وما انفصلنا عنه إلا بعبوديتنا فمن لزم رتبته منا فما جنى على نفسه بل أعطى الأمر حقه فقد بان لك الحق * وقد بان لك الخلق * فقل ما شئت أو سمه * فكل قوله حق فما في كونه مين * وما في كوننا صدق وفي هذا المعنى قول لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل قال رسول الله ص في هذا البيت أصدق بيت قالته العرب قول لبيد يعني هذا النصف منه قلنا وهذه رتبة ما خص الله بها أحدا من الناس وأثنى عليه بها إلا الذاكر وذلك أن الذاكر هو الذي كان له علم بأمر ما ثم نسيه لما جبل عليه الإنسان من النسيان كما قال الله عز وجل نسوا الله فنسيهم وصورة نسيانهم إنهم توهموا بما أضاف الله إليهم من الأعمال والأموال والتمليك أن لهم حظا في الربوبية أو ضرب الله لهم بسهم فيها بقوله أو ما ملكت أيمانكم فلما اعتنى الله تعالى بمن اعتنى منهم وآتاه رحمة من عنده ذكر اسم ربه والله يقول أنا جليس من ذاكرني والذاكرون هم جلساء الحق فأورثه الذكر مجالسة الحق وأورثته المجالسة مشاهدة الحق ورؤيته في الأشياء يقول الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله وعمر معه وغيره بعده وغيره فيه وغيره ما رأيت شيئا من غير ارتباط بشئ وأورثته رؤية الحق تأخره عما كان يتوهم من أن الله تعالى ضرب له بسهم في الربوبية وإنها من نعوته وله فيها قدم بوجه ما فتأخر عن ذلك بالذكر فقال وذكر اسم ربه فصلى أي تأخر إلى مقام عبودته وأفرد الربوبية لله تعالى فأفلح من جميع وجوهه وليست هذه الصفة مشاهدة لغير الذاكر فالذاكر عبد مخلص لله تعالى ألا ترى إلى ما قال في الذي اتصف بنقيض هذه الحال لما جاءه ذكر ربه وهو القرآن يذكره بنفسه وبربه فلا صدق من أتى به أنه من عند ربه ولا صلى يقول ولا تأخر عن دعواه وتكبره وقد سمع قول الله الحق ولو لم يكن من عند الله فينبغي للعاقل إذا سمع الحق
(٣٧٨)