الوجود والعدم واعلم أنه ما أتى على أحد إلا من الغفلة عما يجب عليه من الحقوق التي أوجب الشرع عليه أداءها فمن أحضرها نصب عينيه وسعى جهده في أدائها ثم حالت بينه وبين أدائها موانع تقيم له العذر عند الله فقد وفى الأمر حقه ووفى الله بذمته ولا حرج عليه ولا جناح ولا خاطبه الحق بوجوب حق عليه مع ذلك المانع والموانع على نوعين نوع يكون مع الحضور ونوع يكون مع عدم الحضور وهو الغفلة فأما النوع الذي يكون مع الحضور فينقسم قسمين قسم يرجع إلى النظر في ذلك الواجب هل هو واجب عليه أم لا فيجتهد جهد وسعه الذي كلفه الله في طلب الدليل على وجوب ذلك الأمر فلا يجده وهو من أهل الاجتهاد فلا يجب عليه إلا ما يقتضيه دليله وهو واجب في نفس الأمر عند الله ولكن أخطأ هذا المجتهد فهو مأجور عند الله بنص الله ونص رسوله ص وما كلفه الله إلا ذلك وقد أدى ما كلفه الله من الاجتهاد في طلب الدليل فلم يجده وليس للمجتهد أن يقلد غيره في حكم لا يعرف دليله ولكن من اجتهاده إذا لم يعثر على دليل أن يسأل في ذلك الأمر أهل الاجتهاد الذين حكموا عليه بالوجوب وصورة سؤاله أن يقول لهم ما دليلكم على ما أوجبتموه في هذا الأمر ولا يقلدهم في الحكم فإذا عرفوه بدليلهم فإن كان ذلك الدليل مما قد حصل له في اجتهاده فقدح فيه فلا يجب عليه النظر فيه ولا الحكم به فإنه قد تركه وراءه وإن كان لم يعثر عليه فيما عثر من نظره فله عند ذلك النظر في دليل ذلك المجتهد المسؤول هل هو دليل في نظر هذا السائل المجتهد أو ليس بدليل فإن أداه اجتهاده في إن ذلك هو دليل كما هو عند من اتخذه دليلا تعين عليه العمل به وإن قدح فيه بوجه لم يعثر ذلك الآخر عليه فإنه ليس له الأخذ به وتقليد ذلك المسؤول في الحكم الذي حكم هذا الدليل عليه عند ذلك المجتهد فهذا مانع والقسم الآخر أن يعلم وجوب ذلك عليه من فعل أو ترك ثم يحول بينه وبين ذلك إن كان تركا اضطرار وإن كان أمرا فعدم استطاعة وما ثم مانع آخر هذا مع الحضور والنوع الآخر من الموانع الغفلة وهي على نوعين غفلة عن كذا وغفلة في كذا فالغفلة عن كذا ترك ذلك بالكلية وهو غير مؤاخذ بذلك عند الله فإن الله قد رفع عن عباده رحمة بهم الخطاء وهو حال المجتهد الذي ذكرناه آنفا والنسيان وهو الغفلة وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به فإن الكلام عمل فيؤاخذ به من حيث ما هو متلفظ به فإن كان ليس لذلك المتلفظ به عمل إلا عين التلفظ كالغيبة والنميمة فإنه يؤاخذ بذلك بحسب ما يؤدي إليه ذلك التلفظ وإن كان تلفظ به وله عمل زائد على التلفظ به فلم يعمل به فما عليه إلا عين ما تلفظ به فهو مسؤول عند الله من حيث لسانه ولا يدخل الهم بالشئ في حديث النفس فإن الهم بالشئ له حكم آخر في الشرع خلاف حديث النفس فإن لذلك مواطن فإنه من يرد في الحرم المكي بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم سواء وقع منه ذلك الظلم الذي أراده أو لم يقع وأما في غير المسجد الحرام المكي فإنه غير مؤاخذ بالهم فإن لم يفعل ما هم به كتب له حسنة إذا ترك ذلك من أجل الله خاصة فإن لم يتركها من أجل الله لم يكتب له ولا عليه فهذا الفرق بين الحديث النفسي والإرادة التي هي الهم فهذا وأمثاله رحمة من الله بعباده وأما الغفلة في كذا فهو تكليف صعب لو كلفه الإنسان لكن الله ما آخذ عباده بالغفلة في كذا كما لم يؤاخذهم بالغفلة عن كذا فإنه إذا غفل في كذا فإنه غفل عن جزء من أجزاء ما هو فيه شارع أو عامل فهو من غفلت عن كذا وقد شرع الله للغافل في كذا في بعض الأعمال حكما كالساهي في صلاته فإنه قد شرع له سجود السهو جبرا لما سها عنه وترغيما للشيطان الذي وسوس له حتى وقع منه السهو والغفلة فيما هو فيه عامل فإن تغافل حتى أوجب له ذلك التغافل الغفلة آخذه الله بها فإنه متعمل قاصد فيما يحول بينه وبين ما أوجب الله عليه فعله أو تركه فإذا غفل الإنسان أو سها عن عبوديته ورأى له فضلا على عبد آخر مثله ولا سيما إن كان العبد الآخر ملك يمينه أو يكون هذا الغافل من أولي الأمر كالسلطان والوالي فيرى لنفسه مزية على غيره ما يرى تلك المزية للمرتبة التي أقيم فيها إن كان من أولي الأمر ولا للصفة القائمة به من حيث الاختصاص الإلهي له بها كالعلم وكرم الأخلاق فلم يفرق بين نفسه والمرتبة ولا بين الصفة والموصوف بها فإنه صاحب جهل وغفلة مردية ولهذا يقول في حالها وأنت مثلي أو فلان مثلي أو يعادلني ومن هو فلان وأي شئ قيمة فلان وهل هو إلا عبدي أو من رعيتي أو هو كذا من كل أمر مذموم ينزه نفسه عنه وينوطه بذلك الآخر بخلاف من ليس بغافل عن نفسه فإنه يجعل الفضل للصفة والمرتبة لا لنفسه فإنه لم ينلها
(٣٨٠)