وكذلك هو في نفس الأمر لو لم تبق آنية ولا يبقى منزل لأنه لما أراد الله بقاء هذه الأنوار على ما قبلته من التمييز خلق لها أجسادا برزخية تميزت فيها هذه الأرواح عند انتقالها عن هذه الأجسام الدنياوية في النوم وبعد الموت وخلق لها في الآخرة أجساما طبيعية كما جعل لها في الدنيا ذلك غير إن المزاج مختلف فنقلها عن جسد البرزخ إلى أجسام نشأة الآخرة فتميزت أيضا بحكم تميز صور أجسامها ثم لا تزال كذلك أبد الآبدين فلا ترجع إلى الحال الأول من الوحدة العينية أبدا فانظر ما أعجب صنع الله الذي أتقن كل شئ فالعالم اليوم كله نائم من ساعة مات رسول الله ص يرى نفسه حيث هي صورة محمد ص إلى أن يبعث ونحن بحمد الله في الثلث الأخير من هذه الليلة التي العالم نائم فيها ولما كان تجلى الحق في الثلث الأخير من الليل وكان تجليه يعطي الفوائد والعلوم والمعارف التامة على أكمل وجوهها لأنها عن تجل أقرب لأنه تجل في السماء الدنيا فكان علم آخر هذه الأمة أتم من علم وسطها وأولها بعد موت رسول الله ص لأن النبي ص لما بعثه الله بعثه والشرك قائم والكفر ظاهر فلم يدع القرن الأول وهو قرن الصحابة إلا إلى الايمان خاصة ما أظهر لهم مما كان يعلمه من العلم المكنون وأنزل عليه القرآن الكريم وجعله يترجم عنه بما يبلغه أفهام عموم ذلك القرن فصور وشبه ونعت بنعوت المحدثات وأقام جميع ما قاله من صفة خالقه مقام صورة حسية مسواة معدلة ثم نفخ في هذه الصورة الخطابية روحا لظهور كمال النشأة فكان الروح ليس كمثله شئ وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وكل آية تسبيح في القرآن فهو روح صورة نشأة الخطاب فافهم فإنه سر عجيب فلاح من ذلك لخواص القرن الأول دون عامته بل لبعض خواصه من خلف خطاب التنزيه أسرار عظيمة ومع هذا لم يبلغوا فيها مبلغ المتأخرين من هذه الأمة لأنهم أخذوها من مواد حروف القرآن والأخبار النبوية فكانوا في ذلك بمنزلة أهل السمر الذين يتحدثون في أول الليل قبل نومهم فلما وصل زمان ثلث هذه الليلة وهو الزمان الذي نحن فيه إلى أن يطلع الفجر فجر القيامة والبعث ويوم النشر والحشر تجلى الحق في ثلث هذه الليلة وهو زماننا فأعطى من العلوم والأسرار والمعارف في القلوب بتجليه ما لا تعطيه حروف الأخبار فإنه أعطاها في غير مواد بل المعاني مجردة فكانوا أتم في العلم وكان القرن الأول أتم في العمل وأما الايمان فعلى التساوي فإن هذه النشأة لما فطرت على الحسد وبعث فيها نبي من جنسها فما آمن به إلا قوي على دفع نفسه لما فيها من الحسد وحب التفوق والنفور من الحكم عليها ولا سيما إذا كان الحاكم عليها من جنسها تقول بما ذا فضل علي حتى يتحكم في بما يريده فينسب إلى المؤمن من الصحابة من القوة في الايمان ما لا ينسب إلى من ليست له مشاهدة تقدم جنسه عليه فكان اشتغالهم بدفع قوة سلطان الحسد أن يحكم فيهم بالكفر يمنعهم من إدراك غوامض العلوم وأسرار الحق في عباده ولم تحصل له رتبة الايمان بغيب صورة الرسول وما جاء به لكونهم مشاهدين له ولصورة ما جاء فلما جاء زماننا ووجدنا أوراقا مكتوبة سوادا في بياض وأخبارا منقولة ووجدنا القبول عليها ابتداء لا نقدر على دفعه من نفوسنا إذا وفقنا الله علمنا إن قوة نور الايمان أعطى ذلك ولم نجد ترددا ولا طلبنا آية ولا دليلا على صحة ما وجدناه مكتوبا من القرآن ولا منقولا من الأخبار فعلمنا على القطع قوة الايمان الذي أعطانا الله عناية منه وكنا في هذه الحالة مؤمنين بالغيب الذي لا درجة للصحابة فيه ولا قدم كما لم يكن لنا قدم في الايمان الذي غلب ما يعطيه سلطان الحسد عند المشاهدة فقابلنا هذه القوة بتلك القوة فتساويا وبقي الفضل في العلم حيث أخذناه من تجلى هذه الليلة المباركة التي فاز بها أهل ثلثها مما لا قدم للثلثين الماضيين من هذه الليلة فيها ثم إن تجليه سبحانه في ثلث الليل من هذه الليالي الجزئية التي يعطيها الجديد إن في قوله إن ربنا ينزل كل ليلة في الثلث الأخير منها إلى السماء الدنيا فيقول هل من تائب هل من مستغفر هل من سائل حتى ينصدع الفجر فقد شاركنا المتقدمين في هذا النزول وما يعطيه غير أنه تجل منقطع وتجلى ثلث هذه الليلة التي نحن في الثلث الأخير منها وهي من زمان موت رسول الله ص إلى يوم القيامة لم يشاركنا في هذا الثلث أحد من المتقدمين فإذا طلع فجرها وهو فجر القيامة لم ينقطع التجلي بل اتصل لنا تجليه فلم يزل بأعيننا فنحن بين تجل دنياوي وأخراوي وعام وخاص غير منقطع ولا محجوب وفي الليالي الزمانية يحجبه طلوع الفجر فحزنا ما حازوه في هذه الليالي وفزنا بما حصل لنا من تجلى ثلث هذه لليلة المباركة التي لا نصيب لغير أهلها
(١٨٨)