يحكمون باستحقاق عبيدهم للعقوبة بمجرد ما إذا صدر منه فعل مخالف للمولى اختيارا، ولا يستندون في ذلك إلا إلى مجرد صدوره منه كذلك - أي عن علم وإرادة - ولا يلتفتون إلى كون مبادئ الإرادة هل هي تكون اختيارية أم لا؟
كيف ولو كان الفعل الاختياري عبارة عما يكون مبادئه اختيارية فلا وجه لاختصاص الاختيارية بالإرادة، بل لابد من القول بلزوم أن يكون جميع ما له دخل في وجود الفعل اختياريا - كوجود الفاعل وعلمه وشوقه - فيلزم أن لا يتحقق فعل اختياري، حتى من الواجب تعالى، وهو ضروري البطلان.
الثاني: أن القرب والبعد بالنسبة إلى الله تعالى قد يكون المراد منه هو كمال الوجود ونقصه، بمعنى أن كل ما كان وجوده تاما كاملا يكون قريبا من مبدء الكمال، كالعقول المجردة، وكل ما كان ناقصا يكون بعيدا عنه، كالموجودات المادية، حيث إن كمالها عين النقص وفعليتها عين القوة، ومن الواضح أن القرب والبعد بهذا المعنى لا يكونان مناط الثواب والعقاب.
وقد يكون المراد منهما هما الأمرين اللذين ينتزعان من استكمال العبد بسبب الطاعة وفعل القربات، وانحطاطه وبعده بسبب العصيان، فهما وإن كانا مناطين للثواب والعقاب - بمعنى أن فعل القربات يوجب استحقاق الجنان، وارتكاب المبعدات يوجب استحقاق النيران - إلا أنه ليس استحقاق المثوبة والعقوبة من تبعات نفس القرب والبعد، بل هما ينتزعان من الطاعة والمعصية، والعقل إنما يحكم باستحقاق العاصي للعقاب والمطيع للثواب، من دون توجه إلى القرب والبعد.
وبالجملة: القرب والبعد، وكذا استحقاق المثوبة والعقوبة كلها منتزعات من الطاعة والمعصية في رتبة واحدة، بلا تقدم لأحدهما على الآخر، كما لا يخفى.