الثالث: أن ما ذكره من انتهاء الأمر بالأخرة إلى الذاتي، وهو لا يعلل مما لا يتم أصلا، وذلك يتوقف على بيان المراد من قولهم: " الذاتي لا يعلل " ليظهر الحال ويرتفع الإشكال.
فنقول: المراد بالذاتي المذكور في هذه الجملة - قبالا للعرضي - هو الذاتي المتداول في باب البرهان، وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الذات، سواء كان من أجزاء الماهية أو خارجا عنها ملازما لها.
والوجه في عدم كونها معللة وكونها مستغنية عن العلة هو أن مناط الافتقار والاحتياج إليها هو الإمكان المساوق لتساوي الطرفين، من دون ترجيح لأحدهما على الآخر، ضرورة أن الواجب والممتنع مستغنيان عن العلة، لكون الوجود للأول والعدم للثاني ضروريا لا يمكن الانفكاك عنهما.
وبالجملة: فالمفهوم إذا قيس ولوحظ مع شئ آخر فإما أن يكون ذلك الشئ ضروري الثبوت له، أو ضروري العدم له، أو لا ضروري الثبوت ولا ضروري اللا ثبوت له، فإذا فرض كونه ضروري الثبوت له - كالوجود بالنسبة إلى الواجب تعالى، وكأجزاء الماهية ولوازمها بالنسبة إليها - فلا يعقل أن يكون في اتصافه بذلك الشئ مفتقرا إلى العلة، وكذلك لو فرض كونه ضروري اللا ثبوت له - كالوجود بالنسبة إلى شريك الباري - وأما لو فرض كون ثبوته له وعدمه متساويين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر فهو الذي يحتاج إلى علة مرجحة، لأن ترجح أحد الطرفين على الآخر بذاته مستحيل بداهة، ولا يقول به أحد، حتى القائلين بجواز الترجيح من دون مرجح.
فانقدح: أن مناط الافتقار هو الإمكان، ومن الواضح أن جميع الموجودات عدا واجب الوجود - عز شأنه - لا مناص لهم من الاتصاف بالإمكان، فالوجود فيهم وجود إمكاني معلول، فلا يكون ذاتيا لهم، للاحتياج إلى العلة.