ويدخل فيهم المنافقون دخولا أوليا. ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) أي حتى يتفرقوا عنه، يعنون بذلك فقراء المهاجرين، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم، أو لعدم مغفرة الله لهم. قرأ الجمهور " ينفضوا " من الانفضاض، وهو التفرق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي " ينفضوا " من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض.
ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال (ولله خزائن السماوات والأرض) أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل وأنه الباسط القابض المعطي المانع. ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وعنى بالأعز نفسه ومن معه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبي، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ثم رد الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) أي القوة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم. اللهم كما جعلت العزة للمؤمنين على المنافقين فاجعل العزة للعادلين من عبادك، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين (ولكن المنافقين لا يعلمون) بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضر فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم والطبع على قلوبهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن زيد بن أرقم قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس شدة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) من حوله، وقال (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيد رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في إذ جاءك المنافقون، فدعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، وهو قوله (كأنهم خشب مسندة) قال: كانوا رجالا أجمل شئ. وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما سماهم الله منافقين لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان. وأخرج ابن المنذر عنه (اتخذوا أيمانهم جنة) قال: حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنبوا بأيمانهم من القتل والحرب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (كأنهم خشب مسندة) قال نخل قيام. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا. قال نزلت هذه الآية (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) في عسيف لعمر بن الخطاب. وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم وابن مسعود أنهما قرآ (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة. قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال دعوة الجاهلية؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوها فإنها منتنة، فسمع