ويقال للحالق أسحت: أي استأصل، وسمى الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات: أي يذهبها ويستأصلها، وقال الفراء: أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة، والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولا أوليا. وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة، وحلوان الكاهن، والتعميم أولى بالصواب.
قوله (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الحكم بينهم والإعراض عنهم.
وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين. وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم. واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيها بينهم، فذهب قوم إلى التخيير، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي: وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء. قوله (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا) أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيل لهم عليك، لأن الله حافظك وناصرك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك. قوله (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) فيه تعجيب له صلى الله عليه وآله وسلم من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به، مع أن ما يحكمونه فيه هو موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وآله وسلم ويحكمونه طمعا منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير. قوله (ثم يتولون) عطف على يحكمونك (من بعد ذلك) أي من بعد تحكيمهم لك، وجملة قوله (وما أولئك بالمؤمنين) لتقرير مضمون ما قبلها. وقوله (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها الهدى والنور، وهو بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيجاب اتباعه. قوله (يحكم بها النبيون) هم أنبياء بني إسرائيل، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و (الذين أسلموا) صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وآله وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعبر عنه بلفظ الجمع تعظيما. قوله (للذين هادوا) متعلق بيحكم. والمعنى: أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا وعليهم. والربانيون العلماء الحكماء، وقد سبق تفسيره، والأحبار العلماء، مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبرون العلم: أي يحسنونه. قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح وبالكسر والكسر أفصح، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. قوله (بما استحفظوا من كتاب الله) الباء للسببية واستحفظوا أمروا بالحفظ: أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل، والجار والمجرور متعلق بيحكم: أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ. قوله (وكانوا عليه شهداء) أي على كتاب الله والشهداء الرقباء، فهم يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة، والخطاب بقوله (فلا تخشوا الناس) لرؤساء اليهود، وكذا في قوله (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) والاشتراء والاستبدال، وقد تقدم تحقيقه. قوله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) لفظ " من " من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل بكل من ولى الحكم، وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب، وقيل بالكفار مطلقا لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا، أو استحلالا أو جحدا، والإشارة بقوله (أولئك) إلى من، والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله (هم الكافرون).