إياكم كما أصاب من كان قبلكم، وقيل معناه: لا يحملنكم شقاقي، والشقاق العداوة، ومنه قول الأخطل:
ألا من مبلغ عني رسولا * فكيف وجدتم طعم الشقاق و (أن يصيبكم) في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم (مثل ما أصاب قوم نوح) من الغرق (أو قوم هود) من الريح (أو قوم صالح) من الصيحة، وقد تقدم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق (وما قوم لوط منكم ببعيد) يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم، وهو مطلق الكفر، وأفرد لفظ (بعيد) لمثل ما سبق في (وما هي من الظالمين ببعيد) ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة فقال (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) وقد تقدم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أول السورة، وتقدم تفسير الرحيم، والمراد هنا أنه عظيم الرحمة للتائبين، والودود المحب. قال في الصحاح: وددت الرجل أوده ودا: إذا أحببته، والودود المحب، والود والود والود: المحبة، والمعنى هنا: أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودة بمن يوده من اللطف به وسوق الخير إليه ودفع الشر عنه. وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة، وجملة (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) مستأنفة كالجمل السابقة، والمعنى: أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية كالبعث والنشور ولا نفقه ذلك: أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة، فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازا، وقيل قالوا ذلك إعراضا عن سماعه، واحتقار الكلام مع كونه مفهوما لديهم معلوما عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازا، يقال فقه يفقه: إذا فهم فقها وفقها، وحكى الكسائي فقهانا، ويقال فقه فقها: إذا صار فقيها (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي لا قوة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا وتتمكن بها من مخالفتنا، وقيل المراد أنه ضعيف في بدنه قاله علي بن عيسى، وقيل إنه كان مصابا ببصره. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى ضعيف: أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير: أي قد ضر بذهاب بصره، وقيل الضعيف المهين، وهو قريب من القول الأول (ولولا رهطك لرجمناك) رهط الرجل عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم، ومنه الراهط لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وإنما جعلوا رهطه مانعا من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة والكفار ألوف مؤلفة، لأنهم كانوا على دينهم فتركوه احتراما لهم لا خوفا منهم، ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم (وما أنت علينا بعزيز) حتى نكف عنك لأجل عزتك عندنا، بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا، ومعنى لرجمناك لقتلناك بالرجم وكانوا إذا قتلوا إنسانا رجموه بالحجارة وقيل معنى لرجمناك لشتمناك، ومنه قول الجعدي:
تراجمنا بمر القول حتى * نصير كأننا فرسا رهان ويطلق الرجم على اللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وجملة (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله) مستأنفة، وإنما قال أعز عليكم من الله، ولم يقل أعز عليكم مني، لأن نفي العزة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عز وجل، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعز عليه من الله، فاستنكر ذلك عليهم وتعجب منه وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام، وفي هذا من قوة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى، ولأمر ما سمى شعيب خطيب الأنبياء، والضمير في (واتخذتموه) راجع إلى الله سبحانه. والمعنى: واتخذتم الله عز وجل بسبب عدم اعتدادكم بنبيه