الأول - حب الإنسان وجود نفسه وبقاءه وكماله، وهو أشد أقسام الحب وأقواها، لأن المحبة أنما تكون بقدر الملاءمة والمعرفة، ولا شئ أشد ملائمة لأحد من نفسه، ولا هو بشئ أقوى معرفة منه بنفسه، ولهذا جعلت معرفة نفسه مفتاحا لمعرفة ربه (11). وكيف لا يكون حب الشئ لذاته أقوى المراتب، مع أن الحب كلما صار أشد جعل الاتحاد بين المحب والمحبوب أوكد وأبلغ؟ وأي اتحاد أشد من الوحدة ورفع الإثنينية بالمرة، كما بين الشئ ونفسه، فالمحب والمحبوب واحد، وسبب الحب غريزة فيه الطباع بحكم سنة الله:
(ولن تجد لسنة الله تبديلا) (12).
ومعنى حبه لنفسه كونه محبا لدوام وجوده، ومكرها لعدمه وهلاكه فالبقاء ودوام الوجود محبوب، والعدم ممقوت، ولذا يبغض كل أحد الموت لا بمجرد ما يخافه بعده، أو لمجرد ما يلزمه من سكراته، بل لظنه أنه يوجب انعدام كله أو بعضه، ولذا لو اختطف من غير ألم وتعب، وأميت من غير ثواب وعقاب، كان كارها لذلك وكما أن دوام الوجود محبوب فكذلك كمال الوجود محبوب، لأن فاقد الكمال ناقص، والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود، فالوجود محبوب في أصل الذات وبقائه وفي صفات كماله، والعدم ممقوت فيها جميعا.
والتحقيق: أن المحبوب ليس إلا الوجود، والمبغوض ليس إلا العدم، وجميع الصفات الكمالية راجعة إلى الوجود، وجميع النقائص راجعة إلى العدم، إلا أن كل فرد من الموجود لما كان له نحو خاص من الوجود، وكانت تمامية نحو وجوده بوجود بعض الصفات الكمالية التي هي من مراتب الموجودات، فكان وجوده مركب من وجودات متعددة، فإذا فقد بعضها فكأنه فاقد لبعض أجزاء وجوده، وبذلك يظهر: أن الموجود كلما كان أقوى وكان نحو وجوده أتم، كان أجمع لمراتب الوجودات في القوة والشدة