وورد: (أن من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل علمه وحضر عذابه). فالبصير لا تقع عينه في العالم على شئ، ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن الله فيه نعمة عليه. ولذلك قال موسى بن عمران: (إلهي! كيف أشكرك ولك علي في كل شعرة من جسدي نعمتان:
أن لينت أصلها، وإن طمست رأسها).
فصل الأسباب الصارفة للشكر إعلم أن السبب الصارف لأكثر الخلق عن الشكر، إما قصور معرفتهم بأن النعم كلها من الله - سبحانه -، أو قصور معرفتهم وإحاطتهم بصنوف النعم وآحادها، أو جهلهم بحقيقة الشكر وكونه استعمال النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وظنهم أن حقيقة الشكر مجرد أن يقولوا بلسانهم:
الحمد لله، أو الشكر لله، أو الغفلة الناشئة عن غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان، بحيث لا يتنبهون للقيام بالشكر، كما في سائر الفضائل والطاعات أو عدم احتسابهم للجهل ما يعم الخلق ويشملهم في جميع الأحوال من النعم نعمة. ولذلك لا يشكرون على جملة من النعم، لكونها عامة للخلق، مبذولة لهم في جميع الحالات. فلا يرى كل واحد لنفسه اختصاصا بها، فلا يعدها نعمة. وتأكد ذلك بالفهم واعتيادهم بها، فلا يتصورون خلاف ذلك، ويظنون إن كل إنسان يلزم أن يكون على هذه الأحوال. فلذلك تراهم لا يشكرون الله على روح الهواء، ووفور الماء، وصحة البصر والسمع وأمثال ذلك. ولو أخذ يمحقهم، حتى انقطع عنهم الهواء، وحبسوا في بيت حمام فيه هواء حار، أو بئر فيها هواء تقبل رطوبة الماء، ماتوا. فإن ابتلى واحد بشئ من ذلك، ثم نجى منه، ربما قدر ذلك نعمة وشكر لله عليه. وكذا البصير، إذا عميت عينه، ثم أعيد عليه بصره، عده نعمة وشكره، ولو لم يبتل بالعمى وكان بصيرا دائما كان غافلا عن الشكر.
وهذا غاية الجهل، إذ شكرهم صار موقوفا على أن تسلب منهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال، مع أن النعمة في جميع الأحوال أولى بالشكر.