تتميم أن قيل: الصبر في المصائب إن كان المراد به ألا تكون في نفسه كراهة المعصية، فذلك داخل تحت الاختيار، إذ الإنسان مضطر إلى الكراهة، فبماذا ينال درجة الصبر في المصائب؟
قلت: من كان عارفا بالله وبأسرار حكمته وقضائه وقدره، بأن يعلم يقينا بأن كل أمر صدر من الله وأبتلي به عباده من ضيق أو سعة، وكل أمر مرهوب أو مرغوب على وفق الحكمة والمصلحة بالذات، وما عرض من ذلك ممن يعده شرطا، فأمر عرضي لا يمكن نزع الخير المقصود منه، وإن ذلك إذا كان متيقنا له، استعدت نفسه للصبر ومقاومة الهوى في الغم والحزن، وطابت بقضائه وقدره، وتوسع صدره بمواقع حكمه، وأيقن بأن قضاءه لم يجر إلا بالخيرة. وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (ع) بقوله: (اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين). ومن بلغ بهذه الدرجة، يتلذذ وبكل ما يرد عليه. ومثله يتمتع بثروة لا تنفد، ويتأيد بعز لا يفقد، فيسرح في ملك الأبد، ويعرج إلى قضاء السرمد. هذا مع أن العبد إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع، وشق الجيوب، وضرب الخدود، والمبالغة بالشكوى، وإظهار الكآبة، وتغيير العادة في الملبس والمطعم ونحوها، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره، فينبغي أن يجتنب عنها، ويظهر الرضا بقضاء، ويبقى مستمرا على عادته، ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت، ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب وجريان الدمع، لأن ذلك مقتضى البشرية. لما مات إبراهيم ولد النبي (ص) فاضت عيناه بالدمع، فقيل له: أما نهيتنا عن هذا؟ قال: (هذه رحمة، إنما يرحم الله من عباده الرحماء). وقال أيضا (ص): (العين تدمع والقلب يحزن، ولا يقول ما يسخط الرب). بل ذلك لا يخرج عن مقام الرضا أيضا، فإن المقدم على الفصد والحجامة راض به، مع أنه متألم بسببه لا محالة. نعم، من كمال الصبر كتمان المصائب، لما ورد من أن كتمان المصائب والأوجاع والصدقة من كنوز البر. وقد ورد المدح في كثير من الأخبار على عدم الشكاية من الأمراض والمصائب. وقال الباقر (ع) (الصبر الجميل، صبر ليس به شكوى إلى الناس). وفي بعض الأخبار: