فصل مراتب الناس في ذكر الموت الناس بين منهمك في الدنيا خائض في لذاتها وشهواتها. وبين تائب مبتدئ، وعارف منتهي.
(فالأول): لا يذكر الموت، وأن ذكره فيذكر ليذمه لصده عما يحبه في الدنيا، وهو الذي يفر منه، وقال الله - تعالى - فيه (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)... (34) وهذا يزيده ذكر الموت بعدا من الله، إلا إذا استفاد منه التجافي عن الدنيا، ويتنغص عليه نعيمه، ويتكدر صفو لذته، وحين إذ ينفعه، لأن كل ما يكدر على الإنسان اللذات فهو من أسباب نجاته.
(والثاني): يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف والخشية، ففي بتمام التوبة، وربما يكرهه خيفة من أن يختطفه قبل الاستعداد وتهيئة لزاد وتمام التوبة، وهو معذور في كراهة الموت، ولا يدخل تحت قوله (ص):
(من كره لقاء الله كره الله لقاءه)، لأن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو الذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقاءه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقاءه.
وعلامة هذا: أن يكون دائم الاستعداد للموت لا شغل له سواه، وإن لم يكن مستعدا له عاملا بما ينفعه في الآخرة التحق بالأول.
(وأما الثالث): فإنه يذكر الموت دائما، لأنه موعد للقاء حبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في الغالب الأمر يستبطئ مجئ الموت ويحب مجيئه، ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين كما روي: (أن حذيفة لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من رده، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فسهل علي الموت حتى ألقاك).
وأعلى رتبة منه: من يفوض أمره إلى الله، ولا يختار لنفسه شيئا: من الموت