فصل المدرك لتمييز محاب الله عن مكارهه لما عرفت أن الشكر عبارة عن استعمال نعم الله فيما يحبه، والكفران عبارة عن نقيض ذلك - أعني ترك استعمالها فيه أ استعمالها فيما يكرهه - فلا بد من معرفة ما يحبه وما يكرهه، وتمييز محابه عن مكارهه، حتى يتمكن من أداء الشكر وترك الكفران، لتوقفهما على معرفتهما وتمييزها. وهذا التمييز والتعريف له مدركان:
أحدهما - الشرع، فإنه كشف عن جميع ما يحبه وما يكرهه، عبر عن الأول بالواجبات والمندوبات، وعن الثاني بالمحرمات والمكروهات.
فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد، فمن لم يطلع على حكم الشرع في جميع أفعاله، ولم يمكنه القيام بحق الشكر.
وثانيهما - العقل والنظر بعين الاعتبار، فإن العقل متمكن - في الجملة - من أن يدرك بعض وجوه الحكم في بعض الموجودات. فإن الله سبحانه ما خلق شيئا في العالم إلا وفيه حكم كثيرة، وتحت كل حكمه مقصود ومصلحة وهذا المقصود والمصلحة هو محبوب الله تعالى. فمن أستعمل كل شئ على النحو الذي يؤدي إلى المقاصد المطلوبة وعلى الجهة التي خلق لها فقد شكر نعم الله تعالى، وإن استعمل شيئا على النحو الذي لم يؤد إلى المقصود منه أو في جهة غير الجهة التي خلق لها، فقد كفر نعمة الله).
ثم العقل لا يتمكن من معرفة كل حكمة مطلوبة من كل شئ، إذ الحكم المقصودة من الأشياء، إما جلية أو خفية. أما الجلية: كحكمة حصول الليل والنهار في وجود الشمس، وحكمة انتشار الناس وسكونهم في وجود الليل والنهار، وحكمة انشقاق الأرض بأنواع النبات في وجود الغيم ونزول الأمطار وحكمة الأبصار في العين، والبطش في اليد، والمشي في الرجل، وحصول الأولاد، وبقاء النسل في الآت التناسل وخلق الشهوة، وحكمة المضغ والطحن في خلق الأسنان وأمثال ذلك. وأما الحكم الخفية: كالحكم التي في خلق الكواكب السيارة والثابتة، واختصاص كل منها بقدر معين وموضع خاص، والحكم التي في بعض الأعضاء الباطنية للحيوان، من