يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن كرم العهد من الدين). فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والأقارب والمتعلقين، ومراعاتهم أوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه، فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر من فرحه بتفقد نفسه، إذ لا تعرف قوة المحبة والشفقة إلا بتعديها من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى أن من قوي حبه لأخيه تميز في قلبه كلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب. ولا ريب في أن المحبة التي تنقطع - ولو بعد الممات - لا تكون محبة في الله، إذ المحبة في الله دائمة لا انقطاع لها. فما قيل من أن (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره حال الحياة) إنما هو لدلالته على كون الحب في الله. وبالجملة: الوفاء بالمحبة تمامها. ومن آثار الوفاء أن يكون شديد الجزع من مفارقته، وألا يسمع بلاغات الناس عليه، وأن يحب صديقه وبغض عدوه، ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل من الوفاء المخالفة له وإرشاده إلى الحق.
هذا وأما البعد والأنس، فقد عرفت أن الأنس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول، والبعد خلافه، والأنس والخوف والشوق، كلها من آثار المحبة، وكل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره، ومما يغلب عليه في وقته، فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال، واستشعر قصوره من الاطلاع على كنه الجلال، انبعثت النفس وانزعجت له، وهاجت إليه، فسميت هذه الحالة في الانزعاج (شوقا)، وهو بالإضافة إلى أمر غايب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف، وكان نظره مقصورا على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف، غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد، استبشر القلب بما يلاحظه فيه، فيسمى استبشاره (أنسا)، وإن كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء وعدم المبالاة، واستشعر إمكان الزوال والبعد، تألم قلبه بهذا الاستشعار، فيسمى تألمه (خوفا)، وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات، فإن غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة