إن هذا العالم وما فيه لا نسبة له إلى عالم الآخرة وما فيه، وأن ألطافه ومزاياه إلى عباده الذين عرفوا نسبتهم إليه، وتيقنوا بأن لا شرافة ولا كمال للنفوس والعقول فوق معرفة ربهم والتقرب إليهم والوصول إلى حبه وأنسبه، فقد وصل إلى أصل كل سعادة ونور وبهجة، لا سيما إذا دفع عن نفسه ذمائم الأخلاق واتصف بفضائله. وقد ظهر مما ذكر: أنه لا ريب في ثبوت الشوق للعباد إلى الله سبحانه. والعجب ممن أنكر حقيقة الشوق إلى الله سبحانه لإنكاره المحبة له كما يأتي، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى المحبوب، وقد عرفت ثبوته من حيث النظر والاعتبار. ولا ريب في ثبوته أيضا من الآيات والأخبار: قال الله سبحانه:
(فمن كان يرجو لقاء ربه...) إلى آخر الآية (9).
فإن الرجاء لا ينفك عن الشوق. وقال رسول الله (ص) في دعاءه:
(اللهم إني أسئلك الرضاء بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت. ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وشوقا إلى لقائك). وفي بعض الكتب السماوية: (طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم لأشد شوقا).
وفي أخبار داود (ع): (إني خلقت قلوب المشتاقين من نوري، ونعمتها بجلالي). وفيها أيضا: (أنه تعالى أوحى إلى داود: يا داود! إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي؟ قال: يا رب! من المشتاقون إليك؟
قال: أن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر، ونبهتهم بالحذر، وخرقت من قلوبهم إلي خرقا ينظرون إلي، وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي، ثم أدعو بملائكتي، فإذا اجتمعوا سجدوني، فأقول: إني لم أجمعكم لتسجدوني، ولكن دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي، وأباهي بهم إياكم، فإن قلوبهم لتضئ في سمائي لملائكتي كما تضئ الشمس لأهل الأرض، يا داود! إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثين، وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلي، يزدادون في كل يوم شوقا). وأوحى الله إليه أيضا: (يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف