وبعضهم حضر الجماعة مدة، ولم يعرف قط من على يمينه ويساره. وكان وجيب الخليل يسمع على ميلين. وكان جماعة تصفر وجوههم، وترتعد فرائضهم عند الصلاة. وكل ذلك غير مستبعد، فإن إضعافه مشاهدة في هم الدنيا وخوف ملوك الدنيا، مع ضعفهم وعجزهم، وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم. وحتى يدخل الرجل على ملك أو وزير، ويحدثه بمهم ويخرج، ولو سئل عمن كان على حواليه، وعن ثوب الملك، لكان غير قادر على الإخبار عنه، لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حوله:
(ولكل درجات مما عملوا) (21).
فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه. فإن موضع نظر الله القلوب، دون ظاهر الحركات. ولذا قال بعض الصحابة: (يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة، من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعم واللذة والبهجة بها) فالمحفوظ حال القلب لا حال الشخص.
ولذا قيل (من صفات القلوب تصاغ الصور في دار الآخرة، ولا ينجو:
(إلا من أتى الله بقلب سليم)) (22) تنبيه دفع إشكال إن قيل: المستفاد من الظواهر المذكورة، أن صلاة الغافل ليست مقبولة إلا بقدر ما أقبل عليه منها، والفقهاء لم يشترطوا إلا حضور القلب عند النية والتكبير، فكيف التوفيق؟
قلنا: فرق بين القبول والإجزاء، فإن المقبول من العبادة ما يقرب العبد إلى الله ويترتب عليه الثواب في الآخرة، والمجزي منها ما يسقط التكليف عن العبد، وإن لم يترتب عليه ثواب ولم يقربه إلى الله. والناس مختلفون في تحمل التكليف، فإن التكليف إنما هو بقدر الوسع والطاقة، فلا يمكن أن يكلف الجميع بإحضار القلب في جميع الصلاة، إذ لا يقدر على ذلك إلا الأقلون. وإذ لم يمكن اشتراط الإستيعاب الضرورية فلا