القصص والكتب الواردة من نواحي العالم، ويأخذها ويسلمها إلى العقل الذي هو السلطان مختومة، إذ ليس له إلا أخذها وحفظها، وأما معرفة حقائق ما فيها فليس إليه. ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم، لأنها آتية إليه مختومة، فيفتشها الملك ويطلع على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها. وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود - أعني الأعضاء - في الطلب أو الهرب أو إتمام التدبيرات التي تعن له. ثم عجائب حكم العقل والأسباب التي يتوقف خلقه عليها ليس دركها في مقدرة البشر، وهذه ما يتوقف عليه الأكل من الإدراكات وأسبابها.
فصل لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل إذا أدرك الغذاء، لم يفد فائدة ما لم تكن شهوة له وميل وشوق إليه.
إذ لولا الميل إليه لكان إدراكه بأي حس وقوة فرضا معطلا. ألا ترى أن المريض يرى الطعام ويدرك أنه أنفع الأشياء له، وقد سقطت شهوته، فلا يتناوله، فيبقى البصر والإدراك معطلا في حقه؟ فيتوقف الأكل على ميل إلى الموافق، ويسمى شهوة، ونفرة عن المخالف، ويسمى كراهة. فخلق الله شهوة الطعام وسلطها على الإنسان كالمتقاضي الذي يضطره إلى التناول، وهذه الشهوة لو لم تسكن بعد أخذ قدر الحاجة لأسرفت وأهلكت نفسه، فخلق الله الكراهة عند الشبع لترك الأكل بها، ولم يجعلها كالزرع الذي لا يزال يجتذب الماء إذا أنصب في أسافله حتى يفسد، ولذلك يحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة، فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى. ثم مجرد الميل والشهوة لا يكفي، ما لم تنبعث الداعية إلى تناول الغذاء، فخلق الله تعالى له الإرادة أعني انبعاث النفس إلى تناوله. وربما حصل الاحتياج إلى قوة الغضب أيضا ليندفع عن نفسه المؤذي وما يضاده ويخالفه، ومن أراد أن يأخذ منه ما حصله من الغذاء. ثم لكل واحد من الشهوة، والكراهة، والإرادة، والغضب، أسباب لا يمكن إحصاؤها. ثم بعد أدراك الغذاء وميله وشهوته وإرادته، لا يفيد شيئا من ذلك ما لم يتحقق الطلب والأخذ بالفعل بآلاتهما. فكم من زمن شائق إلى شئ بعيد منه مدرك له مائل