أسماعهم نحو قوله، وألقوا أبصارهم إلى الأرض، فقال داود: ربكم يقرؤكم السلام، ويقول لكم: ألا تسألوني حاجة، ألا تنادوني فأسمع صوتكم وكلامكم؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم، وانظر إليكم في كل ساعة نظرة الوالدة الشفيقة الرفيقة. ولما قال داود ذلك جرت الدموع على خدودهم وسبح الله كل واحد منهم ومجده، وناجاه بكلمات تدل على احتراق قلوبهم من الحب والشوق).
فصل معرفة الله أقوى سائر اللذات قد عرفت أن الحب هو الميل إلى الشئ الملذ الملائم للمدرك والابتهاج بإدراك الملائم ونيله، واللذة هي نفس إدراك الملائم الملذ ونيله، وهذا الإدراك إن كان متعلقا بالقوة العاقلة - أي إن كان المدرك هو القوة العاقلة - عبر عنه بالعلم والمعرفة، وقد عرفت أنه أقوى وأشد وأشرف من الإدراكات الحسية التي هي الأبصار والاستماع والذوق والشم واللمس.
ثم هذا الإدراك - أعني العلم والمعرفة - يختلف أيضا في الشرافة والكمال بحسب شرافة المدرك، أي المعلوم، فكلما كان المدرك أجل وأشرف كان الإدراك - أي المعرفة - أجل وأعلى. ولا ريب في أن الواجب - سبحانه - أشرف الموجودات وأجلها، فالمعرفة به أعلى المعارف وأشرفها، ويثبت من ذلك: إن أجل اللذات وأعلاها هو معرفة الله - تعالى - والنظر إلى وجهه الكريم، ولا يتصور أن يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة. وبيان ذلك بوجه أوضح: أن اللذات تابعة للإدراكات، والانسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذاتها عبارة عن نيلها مقتضى طبعها الذي خلقت له، فغريزة الغضب لما خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام، وغريزة الشهوة لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل الغذاء وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الاستماع والأبصار والاستشمام، وغريزة العقل المسماة بالبصيرة الباطنة خلقت لتعلم بها حقائق الأشياء كلها، فلذتها في العلم والمعرفة، والعلم لكونه منتهى الكمال وأخص صفات الربوبية، يكون أقوى اللذات والابتهاجات