تنبيه إعلم أن النعم الأخروية، التي هي الغايات المطلوبة لذواتها، وتفاصيلها وأسبابها وما يتوقف وجودها عليه، إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب، مما لا يمكن دركها، والعقول البشرية قاصرة عن درك قليلها فضلا عن كثيرها.
وأما الوسائل الأربعة من النعم التي انقسم كل منها أيضا إلى أربعة أقسام، وصار مجموعها ستة عشر قسما، فيستدعي كل قسم من الستة عشر أسبابا، وتلك الأسباب أسبابا، حتى تنتهي بالآخرة إلى مسبب الأسباب وموجود الكل. والمتفكر يعلم، أن كلا منها يتوقف على نعم وأسباب أخرى متسلسلة خارجة عن حد الاحصاء. فإن نعمة الصحة التي من النعم الواقعة في المرتبة المتأخرة تتوقف على أسباب ونعم من جملتها نعمة الأكل، فإن إحصاءها وإن لم يكن ممكنا، إلا أنا نشير إلى بعضها على سبيل التلويح دون الاستقصاء، لتقاس عليها البواقي. فنقول:
نعمة الأكل تتوقف على إدراك الغذاء وأسبابه، وعلى شهوة الطعام وميله وإرادته وأسبابه، وعلى القدرة إلى تحصيله وأسبابه، وعلى وجود أصل الغذاء المأكول وتكونه، وعلى إصلاحه بعد وجوده وتكونه، وعلى الأسباب الموصلة له إلى كل إنسان أو كان بعيدا عنه، وعلى أسباب الطحن والجذب والهضم والدفع وسائر الأفعال الباطنة إلى أن يصير جزء للبدن، وعلى الملائكة الموكلين على فعل من الأفعال المذكورة. فها هي نذكرها إجمالا وتلويحا في فصول:
فصل الأكل الأكل يتوقف أولا على إدراك الغذاء المأكول رؤية ولمسا واستشماما وذوقا، إذ ما لم يبصره لم يمكنه تمييزه وطلبه، وما لم يلامسه لم يتمكن من درك بعض أوصافه اللازمة في الأكل، وما لم يشمه لم يتشخص ما يكرهه رائحته عما تطيب رائحته، وربما توقف تحصيله على استشمام رائحته من بعد، لا سيما لبعض الحيوانات، وما لم يذقه لم يدرك أنه موافق أو مخالف له، وبذلك ظهر توقفه على خلق الحواس المدركة الظاهرة، فخلقها الله