يموت ولم يأته رزق، فقال: يا رب! إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي، وإلا فاقبضني إليك. فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار، وتقعد بين الناس. فدخل المصر فأقام، فجاء هذا بطعام، وهذا بشراب، فأكل وشرب فأوجس في نفسه ذلك، فأوحى الله له: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا: أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي لا) فصل درجات الناس في التوكل إعلم أن درجات الناس - كما عرفت - في التوكل مختلفة، بحسب تفاوت مراتبهم في قوة اليقين وضعفه، وفي قوة التوحيد وضعفه:
فمنهم: من كمل إيمانه ويقينه، بحيث سقط وثوقه عن الأسباب بالكلية، وتوجه بشراشره إلى الواحد الحق، ولا يرى مؤثرا إلا هو، وليس نظره إلى غيره أصلا، وقلبه مطمئن ساكن بعنايته بحيث لا يختلج بباله احتمال أن يكله ربه إلى غيره، ولا يعتري نفسه اضطراب أصلا. فلا بأس لمثله أن يعرض عن الأسباب المقطوعة أو المظنونة بالكلية، لأن الله سبحانه يحفظه ويحرسه ويصلح أموره، ويرزقه من حيث لا يحتسب، سواء حصل الأسباب أم لا، وسواء كسب أم لم يكتسب، إلا أنه ربما لم يترك السبب والكسب ويتبع أمر الله فيه، إلا أنه ليس وثوقه إلا بالله دون السبب والكسب. وما ورد من حكايات بعض الكمل من الأولياء، من أنهم يسافرون في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد ثقة بالله، ويصل إليهم الرزق، أو لا يحترزون من السباع الضارة، أو يغلظون القول بالنسبة إلى أهل الاقتدار من الملوك والسلاطين من دون خوف ومبالاة، اعتمادا على الله، والله - سبحانه - ينجيهم منهم، كانوا منهم أي من الكاملين في التوكل. قال الصادق (ع):
(أبى الله - عز وجل - أن يجعل أرزاق المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون) وإنما خصه بالمؤمنين، لأن كمال الإيمان يقتضي ألا يثق صاحبه بالأسباب وأن يتوكل على الله - عز وجل وحده. وكمال الإيمان إنما يكون